أسفر شح المياه والجفاف في المدن العراقية خلال عام 2022 إلى اكتشاف مناطق أثرية كانت مطمورة تحت نهري دجلة والفرات وروافدهما، إضافة إلى قطع أثرية مهمة يعود بعضها إلى أكثر من 3 آلاف عام، تحديداً في المحافظات التي تراجعت فيها مناسيب المياه بشدة، مثل ديالى والموصل والنجف ودهوك. إذ كشفت الأزمة المائية عن كنوز معرفية وأثرية، بالغة الأهمية، وفقاً لتعليقات مسؤولين في وزارة الثقافة العراقية، فيما يعتقد باحثون أن مناطق جنوب العراق تحتوي على عشرات المدن المطمورة تحت نهر الفرات، نتيجة الانحرافات المتعمدة في مسار مجرى النهر التي حدثت خلال العقود الماضية.
في أغسطس/ آب الماضي، أعلن مدير متحف الناصرية الحضاري في مركز محافظة ذي قار، عامر عبد الرزاق، أن بعثات أجنبية اكتشفت "عددا من القطع الأثرية المهمة ومجموعة من المستوطنات، وتم تسليم تقرير نهائي عن هذا الموقع مزود بكل المكتشفات الأثرية". وبعد هذا الإعلان، صدر عن وزارة الثقافة العراقية بيان أكد اكتشاف كنز أثري مهم في تل أسود في مدينة النجف، جنوبي العراق، من قبل بعثة تنقيب عراقية.
وفي دهوك، التابعة لإقليم كردستان، شمال العراق، أعلنت دائرة الآثار أخيراً عن اكتشاف موقع أثري داخل حوض نهر دجلة بعد انحسار مياه النهر، يضمّ قصراً ومجموعة من المباني، إضافة إلى سور حجري. وقال مدير دائرة آثار دهوك، بيكس بريفكاني، في تصريحات صحافية، إن "فريقاً مشتركاً من علماء الآثار من إقليم كردستان وألمانيا اكتشف مدينة عريقة تعود إلى عصر الإمبراطورية الميتانية (1400 عام قبل الميلاد) داخل حوض نهر دجلة".
في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلن رئيس فريق الآثار العراقي، فاضل محمد، اكتشاف جداريات آشورية جديدة تعود إلى 2700 عام في مدينة الموصل، مرجحا أن "الآثار المكتشفة كانت تزين قصر سنحاريب، ثم نُقلت بعد ذلك إلى بوابة ماشكي". في حين أكد مجلس الآثار والتراث العراقي، في بيان، أن "تاريخ هذه الآثار يعود إلى الملك الآشوري سنحاريب الذي حكم مدينة نينوى القديمة من عام 705 إلى عام 681 قبل الميلاد". وقد عثر على هذه الآثار خبراء من جامعة الموصل العراقية، وجامعة بنسلفانيا الأميركية، جرّاء انخفاض مناسيب المياه في المدينة.
يواجه العراق منذ أكثر من ثلاثة أعوام، موجة جفاف غير مسبوقة، إثر إقدام إيران على إنشاء عددٍ من السدود على روافد نهر دجلة وتغيير مجاري روافد أخرى، إضافة إلى وجود مشاريع السدود التركية، وتزامن ذلك مع شح الأمطار، ما أدّى إلى جفاف عدد من البحيرات وتراجع مستوى نهري دجلة والفرات إلى مستويات قياسية. هذه الأزمة، دفعت الآثاريين والفرق البحثية والاستكشافية والعاملين في مجالات التنقيب عن الآثار إلى استغلال ظهور مساحات يابسة جديدة، في مناطق يُعتقد أنها امتدادات لحضارات عراقية سابقة.
وكانت مصادر متخصصة في مجالات الآثار في العراق قد قالت في وقت سابق لـ"العربي الجديد" إن "المواقع الأثرية في العراق تزيد عن 15 ألف موقع، موزعة بين محافظات شمال ووسط وجنوب العراق، لكن المكتشف منها، لا يتجاوز بضعة آلاف فقط، وذلك وفقاً للمسوحات الحديثة"، مبينة أن "العراق يُصر على استكشاف معظم هذه المواقع في سبيل السيطرة عليها ومنع فرق التنقيب الخارجة عن القانون من الاستيلاء عليها وتهريب الآثار إلى الخارج".
في السياق نفسه، قال المسؤول في دائرة هيئة الآثار والتراث التابعة لوزارة الثقافة، حسن العبدلي، إن "قرى ومدنا قديمة ظهرت خلال العامين الماضيين في محافظات متفرقة من البلاد، وجميعها كانت تحت مياه نهري دجلة والفرات، وهذا الظهور دفع لجان التنقيب العراقية إلى البدء بحملات موسعة لجمع الآثار المترامية والمطمورة، وقد استعانت الوزارة بفرق أميركية وروسية وفرنسية لتحقيق الهدف الأهم، وهو اكتشاف الكنوز الجديدة"، مؤكداً لـ"العربي الجديد"، أن "الوزارة تعلن بين فترة وأخرى عن اكتشاف القطع الأثرية الجديدة، لا سيما في الأنبار والموصل والنجف وذي قار وديالى، ولا يمكن حالياً إعطاء رقم لأن العمل مستمر في اكتشاف الكثير من الكنوز الأثرية".
وأضاف العبدلي أن "الأعوام الخمسة الماضية، هي الأوفر حظاً بالنسبة لملفي اكتشاف واسترداد الآثار العراقية، وتسجل وزارة الثقافة نجاحات باهرة في هذا الملف، لا سيما مع تعاون البعثات والفرق الأجنبية التي تقدم خدمات كبيرة ومهمة في ذلك، فإلى جانب استرداد أكثر من 18 ألف قطعة أثرية، نحن في صدد الإعلان عن عشرات المدن الجديدة المكتشفة مصحوبة بآلاف القطع التي تعود إلى حقب متفرقة، وبعضها قريب، مثل العهد العباسي"، معتبراً أن "عام 2022، يمكن أن يكون هو عام الآثار العراقية، خصوصاً من ناحية الاكتشافات الهامة".
من جهته، بيّن عضو لجنة التنقيب العراقية والمهتم في مجالات البيئة والآثار، سلام عبد، أن "الضرر الكبير الذي ألحق بالعراق بسبب شح المياه وجفاف الأنهر في معظم محافظات البلاد، كشف عشرات المدن الجديدة التي كانت مطمورة تحت المياه، وهي تعود إلى حقب متفرقة، منها ما هو قبل الميلاد، ومنها ما يعود إلى حقب ليست ببعيدة، وساهمت الانجرافات وتغيرات مسارات الأنهر في طمرها كلياً، بعضها كان موجوداً وفقا للمسوحات التي تتوفر لدى وزارة الثقافة والمنظمات المعنية، وأخرى جرى اكتشافها بالصدفة، أو عن طريقة الأهالي القريبين من الأنهر".
ولفت عبد، في حديثه مع "العربي الجديد"، إلى أن "الفرق العراقية المتخصصة بالبحث والتنقيب اكتشفت لحد الآن نحو 8 مدن، غالبيتها في الموصل، وأخرى في الأنبار وديالى والنجف، وهناك أجزاء منها مدمرة بفعل جريان المياه، لكن بعض الأجزاء والقطع الأثرية بقيت محافظة إلى حد ما على طبيعتها، وتحديداً المبنية والمصنوعة من الحجر الذي يمتد إلى مناطق شمال العراق"، موضحاً أن "لدى الحكومة العراقية تنسيقاً قوياً مع السلطات في إقليم كردستان بشأن الجهود البحثية بهذا الملف".
بدوره، أشار الباحث في شؤون الآثار والتراث علي الشمري، إلى أن "أكثر من ألفي قرية كانت تمثل أماكن تجمعات بشرية في عموم مدن بلاد الرافدين، لا تزال غير مكتشفة وفقاً للخرائط القديمة، وأن أكثر من ألف منها تدمر بفعل المياه واختلاف درجات جودة المياه والمشاكل البيئية، لكن هناك مئات المواقع غير المكتشفة، لذلك تعمل وزارة الثقافة والآثار العراقية على الاعتماد على فرق أجنبية لتكثيف عمليات البحث"، معتبراً، في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، أن "آليات البحث العراقية لا تزال متأخرة بالمقارنة مع الأساليب الأجنبية، وهناك مخاوف من تهريب بعض القطع الأثرية من المواقع المكتشفة، لا سيما وأن غالبيتها غير مسجلة رسمياً في العراق، بالتالي فإن عملية إخفائها ممكنة".