يُراكم المخرج الأميركي الهندي نارديب كورمي، في روائيّه "موطن الذهب" (2022)، طبقات متراصة من السرد. يوكل لنفسه مهمّة الكشف عن أشدها التصاقاً بشخصه، كأميركي ابن مهاجر هندي من البنجاب، تاركاً للمُشاهد متعة التفرّج عليها، عافياً عنه دور المُشارك الفاعل في إعادة كتابتها، لا رغبة منه في تجاهله كمتلقٍّ، له الحق في إكمال تأليف نصّه السينمائي، بما أنّه خرج من يديه، بل لأنّه أراد أنْ يكون هو المؤلّف والصانع (سيناريو وإخراج)، وأيضاً مُجَسِّد (ممثل) دور رئيسي، يحكي فيه عن نفسه، وعن رحلته القصيرة مع صبية مكسيكية مهاجرة، جاءت كوالده إلى أميركا، بحثاً عن عيش أحسن، في بلدٍ سمّاه المهاجرون الأوّلون "موطن الذهب".
المشهد الأول ينقل احتفالاً عائلياً يُقام في بيت كيران، سائق الشاحنة الهندي ـ الأميركي، لحظة توجّه زوجته (بالافي ساستري) لتصوير أشعة مقطعية، لمعرفة جنس مولودها المُنتظر. مُجرياته تكشف فتوراً بينهما، على أساسه تكتسب تجربته مع الصبية المكسيكية إلينا (كارولين فالنسيا)، المتسلّلة خلسةً إلى شاحنته، معناها الحقيقي. لا يطيل الكشف عن دوافع بقائها معه في رحلته، لإيصال حمولة إلى مدينة أخرى.
المسار مُعدّ كتابةً ليكون فيلم طريق. فيه، تختلط لغات، وتتشابك ثقافات وديانات، بينما يظلّ الخوف من الآخر شاخصاً، لا يُبارح الدواخل، كالماضي الذي يظنّ كيران أنّه تركه وراءه، ولا يريد التفكير فيه. لكنّه ـ بوجود صبية غريبة جالسة إلى جواره في مقدّمة الشاحنة، خائفة طوال الرحلة من اكتشاف رجال الشرطة أمر تسلّلها الحدود سرّاً ـ يعود ثانية. ومضات الذاكرة، المتحفّزة بتذكّر الصبية لأهلها طوال الرحلة، تخترق الجمجمة كشحنة كهربائية شديدة القوة. تستفزّ العقل الباطني لاستعادة صورة الأب يوم وصوله إلى أميركا مُهاجراً، خائفاً من شرطة الحدود الأميركية، وضعيفاً وعاجزاً أمام عنفهم. من وقتها، والأب يطفئ عجزه بجرعات كحول، أدمنها، وبسببها ابتعد عن عائلته.
حال الصبية مُربك له. أمامه، تدّعي أنّ والديها سمحا لها بالمجيء إلى بيت عمها دييغو في أميركا، والإقامة عنده. لكنّها لا تعرف عنوانه. تختبئ كلّما رأت شرطياً على الطريق. في مستوى آخر، وجودها معه يخيّط فتقاً حاصلاً في علاقته بزوجته، ويفتح ممراً لمقابلة والده، الذي كاد ينسى وجوده. بتذكّرها الدائم لأهلها، وحنينها إليهم، تُنبّهه من حيث لا تدري إلى حاجة عنده إلى تواصل أكثر حميمية مع عائلته، لا يبوح بها. يحاول الانشغال عنها بمراقبة فضاءات بعيدة، عبر عدسة تلسكوبه الصغير. في صباه وجد فيه مهرباً من واقع عائلي مشحون بتوترات ومشاحنات، والآن، في استراحاته على الطريق، يراقب به من فوق سطح شاحنته وهج كواكب بعيدة، يخفّف جمالُ هالاتها المضيئة بعضَ قلقٍ وجودي، كما يخفّف وجودُ الكائن الصغير، الجالس إلى جانبه، شيئاً من توتّره.
تلتقط الزوجة المشاعر الجديدة، المتولّدة عنده من اصطحابه الصبية. عفويتها تولّد عنده إحساساً بمسؤولية. يتّسع صدره لمشاكساتها الطفولية. يفهم ذعرها من رجال الشرطة ودورياتهم على الطريق، كدفاعات فطرية تحتمي بها، من وضع مشحون بكراهية الآخر، القادم من خارج المكان. تكسره كتابة ميّالة إلى المصالحة. تستقدم، لأجل تثبيت ابتعادها عن ثنائية الأبيض والأسود (الخير والشر)، علامات مكانية، تُقوّي من توصيفه كفيلم طريق. بمدلولاتها الروحية والثقافية، يغتني متنه، وتتكامل جماليات اشتغاله السينمائي تصويراً (كريستوفر لو) وموسيقى (سيمون توفيقيو)، وأداءً تمثيلياً رائعاً لبطلته معها.
في مقصف هندي، تتذوّق إلينا طعاماً مذاقه طيب، لا يُشبه أبداً طَعْم الأطعمة الجاهزة، المنتشرة على الطريق. معه، تزور معبداً سيخياً. تنبهر بمجاورة الموسيقى لصلاة. تسمع، باقترابها من أكشاك منصوبة على الطريق، أغنيات آسيوية راقصة تشعّ بهجةً. في الشاحنة، تمتلئ أذناها دائماً بألحان هندية، وكلمات لا تعرف معناها، تأتي عبر هاتفٍ محمول. تناشد كيران مرّة العودة سالماً إلى بيته، ومرّة الاعتناء بالكائن الذي يصطحبه.
يحصل هذا كلّه. لكنْ، إلى جانبه، يحدث ما كانت تخشى منه الصبية: اكتشاف الشرطة وجودها غير الشرعي. تهرب من رجال الدورية نحو المجهول، تاركةً الكائن ـ الذي اعتاد وجودها ـ مصدوماً بواقعٍ، يراجع فيه موقف والده، بروح جديدة. تتفهّم حال الكائن الغريب يوم يحطّ في أرض مجهولة. يلازمه خوفٌ طويل منها، يشبه ذاك الخوف الذي رآه في عينَي الصبية، وهي تعدو كفريسةٍ طريدة.