"مناورة الملكة": فتاة مقسّمة على 64 مربعاً

06 نوفمبر 2020
في المسلسل دلالات سياسية كثيرة حول الحرب الباردة (نتفليكس)
+ الخط -

في المشهد الافتتاحي من مسلسل "مناورة الملكة" The Queen's Gambit الذي بث الموسم الأول منه الأسبوع الماضي على شبكة "نتفليكس،" يختار المخرج سكوت فرانك لقطةً تقليدية للانطلاق بأحداث العمل.

بطلة العمل، إليزابيث هارموني (آنا تايلور جوي)، تخرج من حوض الاستحمام، وهي في حالة فوضى عارمة تعكس جوانب نفسية عميقة، ستبدد غشاوتها الفاضحة تقنية "فلاش باك" في التصوير السينمائي، وذلك بعد المشهد الثاني، إذ ينتظر جمع غفير من إعلاميين وصحافيين، المواجهة المنتظرة بين أفضل وأصغر لاعبة شطرنج في الولايات المتحدة، وأفضل لاعب شطرنج في العالم، الروسي فاسيلي بورغوف (مارسين دوروسنيكسي).

مواجهة افتتاحية حماسية تبعث منذ بداية الحلقة الأولى إلى تشويق مستفز يكسر حالة الخوف والملل اللذين سيقترب المشاهد من تلقفهما، لولا الدلالات الدرامية المشجعة التي خطفت المشاهد اللاحقة من الغوص أكثر في تقليديتها. فالزمن الدرامي ينطلق عام 1968، رقعة شطرنج ولاعبان، أميركي وآخر روسي على طاولة واحدة، والعالم يراقب.

إذن، نحن هنا أمام مقاربتين شكليتين: سينمائية كنسخة مطورة عن واحد من أشهر أفلام لعبة الشطرنج "تضحية البيدق" Pawn Sacrifice للمخرج إدوارد زويك الصادر عام 2015، وتاريخية متمثلةً بالحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي (1947 – 1991).

إن هذا النوع من الأعمال يبدو نموذجيًا جدًا، ولا سيما عندما نكون أمام إنتاج أميركي يتداول قضايا الفخر والاعتزاز بشكل مبتذل، فيطغى الإسقاط على القصة في غالب الأعمال، ولا يبقى على الجمهور سوى الاستمتاع بتفاصيل الحكاية وصراعاتها في حال كانت جذابة ومتقنة، وإن كانت الحوارات الرياضية تشكل أزمةً لدى المشاهد الجاهل بهذه اللعبة غير أن تأثير ذلك ينسحب أمام الإطار العام للقصة الممتعة وفضائها البصري الساحر، وهو ما لا ننفي استحقاقه في "مناورة الملكة".

ما أن تبدأ الحكاية بفتاة نجت من حادثة سير انتحارية نفذتها والدتها بعد أن تخلى الزوج عنهما قبل سنوات، ثم انتقال الفتاة ذات السنوات التسع إلى دارٍ لرعاية الأيتام، حيث ستكتشف موهبتها الفطرية في لعبة الشطرنج بمساعدة مستخدم يدعى وليام شايبل، حتى نتجه نحو خلطة بصرية ساحرة تحافظ على أناقتها الشخصيات الجذابة بأدوارها ومواقعها.

لا ننكر أن رياضة الشطرنج واحدة من أكثر الرياضات الذهنية متابعةً وطلبًا حول العالم، نظرًا للخاصية السحرية التي تتمتع بها، وهو ما شفع للمسلسل، إلى جانب جاذبية الشخصية الرئيسية المميزة بأدائها وإتقانها لدور اللاعب الجاد والمحترف، بعض هفواته على صعيد السرد القصصي الركيك.

التركيز ينصب ناحية بيث هارموني وصراعاتها النفسية وإدمانها على الكحول والعقاقير المهدئة، باعتبار أنها تيتمت لمرتين. فوالدتها بالتبني التي نرى أن حياتها قد أخذت مصيرًا مشابهًا لما مرت به الوالدة الأولى؛ إذ تخلى زوجها عنها هي الأخرى، وتُركت لمصير مجهول مع ابنتها المتبناة هارموني من دون معيل نقودٍ، ثم ما تلبث أن تموت بسبب مرض عضال، ما هي إلا نقطة فيها مغالاة لناحية عكس واقع اجتماعي له تأثيرات نفسية مدمرة بهدف بناء شخصية تستدرج عاطفة الجمهور، فشكل ذلك ضعفًا واضحًا يُضاف إلى التركيبة القصصية للعمل.

بالطبع، تقاوم هارموني مشاكلها بالهروب إلى عالم خاص بها، عماده رقعة الشطرنج. مسارات وتحديات تنتصر عليها وتغدو إحدى أكثر لاعبي الشطرنج شهرة، ما جعل حياتها تنقلب إلى حياة بذخ وترف، يرافقه هوسٌ أكثر باللعبة.

لا تختلف هذه النسخة كثيرًا عن نسخة إدوارد زويك في فيلم السيرة الذاتية، "تضحية البيدق"، من حيث الخط العام لسيناريو المشاهد العامة والمناخ الدرامي وطبيعة الشخصيات الرئيسية، فالبطل بوبي فيشر (توبي ماغواير) يلتقي مع هارموني في نقاط عديدة: هوس بلعبة الشطرنج، وتحقيق إنجازات وشهرة واسعتين منذ الصغر، وعالم خيالي خاص، باختلاف وحيد وهو أن آثار الهوس والاضطرابات النفسية تأخذ منعطفًا أخطر على السلامة العقلية لدى فيشر، حين انعكس الأمر عليه بوساوس قهرية وارتياب من العملاء والجواسيس السوفييت، خلال فترة تحضيره للقاء قرينه بطل العالم الروسي بوريس سباسكي.

لا شك أن نسخة الفيلم كانت مباشرة وواضحة لأنها تدخل في صلب السيناريو، وهذا ما سمح بالتوسع أكثر من حيث شكل الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في تلك الحقبة التي شملت توسعات جيوسياسية، ومعارك استخباراتية وجاسوسية على عكس المسلسل الذي ذهب أكثر إلى المواربة والترميز في حبكته وتفننه في وضع الدلالات والتفاصيل، وهو ما انعكس إيجابًا على الإطار التشويقي، وسمح بغلبة الإيقاع الدرامي على الحبكة، مع التحفظ على شكلية التفاصيل المتشابهة والمتقاربة بين هذين العملين.

الرواية الأميركية حاضرة دائمًا في الأعمال الفنية. انتصاراتها وإنجازاتها ومقدراتها، لا بد أن تكون على مقاس الأمجاد التي تفتخر فيها على مدى قرون، فتتماهى العقلية الأميركية مع مختلف مجالات الحياة. وهنا نسخة أخرى تترجم هذا التماهي التقليدي، خصوصًا حين نتكلم عن صراعٍ بارزٍ دام عقوداً بينها وبين الاتحاد السوفييتي السابق، ورقعة الشطرنج خير وسيلة لتوقيع هذه الرواية.

سباق الهيمنة تتخلله استراتيجيات دفاعية وأخرى هجومية، فيخرج الصراع من شكله الرياضي إلى منعطف سياسي يتطلب من القوتين المتصارعتين في تلك الفترة تمرير أجندتها ووسائلها بشتى الطرق، ضمن عمليات كرٍ وفرٍ لفرض الدولتين هيمنتهما وتسجيل نقطة انتصار على حساب الأخرى.

هذا ما تم تصويره في الحلقات اللاحقة، حين تتعرض هارموني لهزيمتين متتاليتين على يد اللاعب الروسي، واحدة في فرنسا وأخرى في آيسلندا. وكأن الرقعة ما هي إلا شاهد على تاريخ هذه الحرب بتنويعاتها ووسائلها ونتائجها ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل على الصعيد الإنساني والاجتماعي والفكري والديني.

فتفكك المعسكر الشيوعي وانهيار الاتحاد وتقهقر الشيوعية هو انتصار لأميركا التي أفرد لها زعامة العالم كقطب واحد لا ند له، لذا كان على البطلة الأميركية الانتصار في البطولة العالمية الأخيرة التي تجري في موسكو، أي هزيمة الاتحاد في عقر داره، بل والمبالغة في الاستمتاع بهذا الانتصار بشكل مستفز حين يصبح لهارموني جمهور عريض من مواطني روسيا، إضافة إلى رمزية المشهد الأخير، حيث تتابع هارموني سيرًا على الأقدام وهي في حالة من الرضا نظرًا لانتصارها على بورغوف، ومرورها من شارع يجري فيه عادة منافسات في لعبة الشطرنج، بين رجال طاعنين في السن، ودعوة أحدهم لها لمنافسة ودية لتختتم المشهد بكلمة "لنلعب"، في توصيف شامل ومختصر لتاريخ الصراع بين المعسكرين مع رفع حجم التمايز باستخدام عنصر شاب في مواجهة عجوز.

المساهمون