يواجه الفيلم، عند صناعته، عقباتٍ كثيرة، تُقسم إلى قسمين: الأول يتعلّق بتفاصيل الصناعة وإفرازاتها المتنوّعة، وهذا يتكفّل به عادة المنتج وفريقه. الثاني يختصّ بالفكري والفلسفي، ما يُعطي الفيلم قيمته الفنية وتميّزه واتجاهه، بعد أنْ ينفث المخرج فيه روحه الخلاّقة، واضعاً بَصْمته ليحيا ويستمرّ، انطلاقاً من خيارات واسعة تتوفّر لديه عند معالجته السيناريو.
لكنْ، في "مقصورة رقم 6" (2021) ـ الفائز بالجائزة الكبرى في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي، مناصفة مع "بطل" الإيراني أصغر فرهادي ـ كانت خيارات الفنلندي يوهو كوسْمانِنْ قليلة جداً، بعد استيلاء غالبية المشاهد الداخلية على الحيّز المكاني للفيلم، إذ حوصرت في مقصورة قطار، ورواق ومطعم، وموجودات أخرى، وشقّة ظهرت في البداية، ومنزل قديم ذهب إليه البطلان في مدينة روسية. المشاهد الخارجية قليلة، تمثّلت في محطات توقّف القطار، والمدينة التي خطّطت البطلة لزيارتها. مناظر ذات لون واحد، عكسه بياض الثلج.
رغم هذه المناظر البصرية المحدودة، ومساحات الأحداث الضيقة، ولَّد كوسْمانِنْ دراما قوية، مؤثّثة بالإثارة والترقّب. معطيات فنية شحنت المتلقّي وغذّت فضوله، للوقوف على كل تفاصيل الفيلم، والذهاب في فعل المشاهدة إلى النهاية، من دون ملل. هذا عائد، أولاً، إلى رؤى المخرج ولمسته، وطريقة معالجته، وتعامله مع مقتضيات القصّة اللطيفة والسيناريو، الذي كتبه مع أندريس فيلدمانيس وليفيا أولمان.
ركّز يوهو كوسْمانِنْ كثيراً على المشاعر الإنسانية، التي أفرزتها أحداث غير مُتوقّعة، إضافة إلى ما يُشغل عقل الإنسان، الذي يخزّن معطيات حياتية كثيرة، يعود لها دائماً ليُصدر أحكامه مع كلّ موقف. هذه ألاعيب سينمائية ذكية، استغلها كوسْمانِنْ ليُولِّد بها المشاعر والعاطفة، لاستمرار دراما الفيلم. مثلٌ على ذلك: وضع المخرج شاباً طائشاً وعصابياً ومُتهوّراً وغير متعلّمٍ، ذي ملامح قوية ووجه قاسٍ، يُدعى ليوها (يوري بوريسوف)، في المقصورة، كشريكٍ مع الشابة الحالمة والمتطلّعة والمتعلّمة، لورا (سايْدِ هارلا)، التي تطارد حلمها، مُنتشية بإفرازات نفسية، نتيجة علاقة عاطفية بينها وبين إيرينا (دينارا دْرَكاراوفا)، المنتمية إلى الطبقة المثقّفة الروسية، حتّى أنّها أصبحت تحسّ بانتمائها إلى هذا العالم، وبأنّها صارت جزءاً منه.
هذا التناقض بينهما كافٍ لصنع الدراما. أكثر من هذا، شَحَن كوسْمانِنْ المتلقّي وحرّضه على كره الشاب، وعلى تكوين صُورٍ سلبية عنّه، بدفعه إلى ارتكاب تصرّفات طائشة، مُظهراً إياه بأنّه يفْرط في السُكر، وتصدر منه ألفاظ غير محترمة بحقّ لورا. لذا، بات المُشاهد يساند لورا، مقارنة بليوها، فتصرّفاته تُشكّل خطراً عليها بالنسبة إليه. أكثر من هذا، بات يُتوقَّع بقيامه بتصرّف أحمق، أو بارتكاب جريمة بحقّها. هكذا، نجح كوسْمانِنْ وكاتبا السيناريو في توجيه المُشاهد، وتكوين صورة سلوكية أرادوها، لأنّ هذا التصوّر يُحدث صدمة فيما بعد، ويكسر أفق التلقّي، الذي يكون أثره أعمق وأجمل، ولا يزول بسهولة.
هذا حصل في نهاية "مقصورة رقم 6"، إذ تبدّلت العواطف، وتغيّرت القراءات والتصوّرات السابقة. لورا محت ماضيها العاطفي تماماً، لأنّها باتت في العالم الحقيقي، بعيداً عن الزيف والمثالية اللذين رأتهما في الطبقة المثقّفة، التي (الطبقة نفسها) تعاملت معها كشخصٍ طارئ، أخذت منها ما أرادته، ثم تخلّت عنها لاحقاً، انطلاقاً من تغليب الرغبة على المشاعر الإنسانية. هكذا تسقط المُثل العليا التي تنادي بها هذه الطبقة، من خلال كتب يُصدرها منتمون إليها، وشعارات يرفعونها.
رسّخ يوهو كوسْمانِنْ هذا المفهوم أكثر، عندما استضافت لورا عازفاً على القيثارة في مقصورتها، لم يجد مكاناً له في القطار، الذي استقلّه في إحدى المحطّات. هذا أثار مشاعر شريكها، الذي فضّلت العازف عليه، لكونه فناناً، يعزف ويغنّي معها أغاني رومانسية فنلندية جميلة وحالمة، كشف بفضلها عن كونه فناناً رقيقاً، ينتمي إلى عالمٍ مثاليّ جداً. لكنّه يظهر، في النهاية، على حقيقته، بسرقته كاميرا لورا، واختفائه من القطار. والكاميرا تحتوي على ذاكرةٍ من الصُور والفيديوهات، التي توثِّق محطّات مهمّة في حياة لورا. كأنّه، بفعلته تلك، قضى على جزءٍ من ذاكرتها، من أجل مبلغ مالي قليل (ثمن الكاميرا). أي أنّ الفنّ والرومانسية والغناء الجميل سقطت كلّها أمام مظهر مادي بسيط.
في المقابل، ظهرت شهامة ليوها، الذي نشأت بينه وبين لورا علاقة قوية، بعد أنْ فهم أحدهما الآخر. مثلٌ أول: ليوها باع ساعته وأشياء له، للاحتفال معها في مطعم القطار. مثلٌ ثانٍ: وصلت لورا إلى "مومانسك" لتحقيق حلمها، وهذا مُبتغى رحلتها، المستمرّة أياماً عدّة في القطار، بهدف اكتشاف نقوش صخرية فيها. لكنّ الثلوج قطعت الطرق المؤدّية إليها، فاتصلت به هاتفياً. عندها، جاء مُسرعاً، تاركاً عمله في المنجم. حينها، استخدم علاقاته، وخسر مالاً كثيراً ليحقّق حلمها، المستحيل بالنسبة إلى كثيرين، لأنّه يعرف أهمية هذا لها، وهو نجح في جهده، مُظهراً مدى حبّه لها، كما أبان في القطار مدى تعلّقه بها، علماً أنّ ما يكنّه لها أكثر من علاقة غرامية عابرة في قطارٍ، لهذا رفض العلاقة في مشهد سابق.
أثبت يوري بوريسوف أنّه صاحب رؤية وكاريزما قوية في التمثيل. حافظ على مستواه التمثيلي، وعكس شخصية ذاك الشاب الذي يُحبّ ويكره ويغضب، على طريقته الخاصة. هذا جعل مخرجين كثيرين يتعاملون معه، خاصة عام 2021، الحافل بأفلامٍ مميزة شارك فيها، كـ"هروب النقيب فولكونوغوف" للمخرجين الزوجين الروسيين ألكسي تشوبوف وناتاشا ميركولوفا، و"ماما أنا في المنزل" للروسي أيضاً فلاديمير بيتوكوف.
إنّها صدفة أنْ تُشارك هذه الأفلام الـ3 في الدورة الـ5 (14 ـ 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" (فاز "هروب النقيب فولكونوغوف" بجائزة الجونة البرونزية، في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة). براعة يوري بوريسوف وازتها قوّة أداء الممثلة الفنلندية سايدِ هارلا، التي تعاملت، هي أيضاً، مع دورها بحرفية كبيرة، عكست شخصية الشابّة المشتّتة، الباحثة عن ذاتها وأحلامها في عالم مليء بالتناقضات والمتغيّرات. هذا ساعد في دفع القصّة اللطيفة إلى الأمام.
"مقصورة رقم 6" ينتصر للإنسان، وللمنطلق البسيط في الحياة. يرسم بتمهّل خطوط الحبّ وطرقه الغامضة، وكيفية التعبير عنه. يحفر عميقاً في سلوك البشر وتكوينهم، ويُدين التلاعب بالمشاعر، ويُظهر مدى ضحالة الطبقات المخملية، التي تنتمي إليها الفئات الفنية والثقافية، كاشفاً ابتعادهم عن قيم تنادي بها في منتجاتها الأدبية والفنية، وتتعالى على الإنسان البسيط وعواطفه المختلفة في الواقع المعيش، ولا تهتم بمصيره، وبما يُنتجه هذا التلاعب والتناسي والإهمال من تأثّراتٍ. يذهب أبعد من ذلك، بإقامته مقارنة بين هذه الفئات وفئات أخرى، مُغلِّباً الطبقة السفلى، التي لا تملك التكوين المناسب، ولم تتلقَّ التعليم الضروري، متيحاً لها تقديم وجهة نظرها في الحياة، وطريقة تعاملها مع الأحلام والأمنيات والحبّ والأمانة والإخلاص.
يحاول يوهو كوسْمانِنْ إيصال فكرة تُفيد بأنّ الشخص، مهما كان سيئاً، هناك ظروف تُساهم في سلوكه، وهذا لا ينفي إنسانيته وعاطفته وصدقه في الحبّ.