تُنتج السينما الأميركية، كلّ عام، عشرات الأفلام الرومانسية، عن دراما الحبّ قبل الارتباط أو في أثنائه. غالبيتها الساحقة تنتمي إلى الترفيه غير المتطلّب والمذرّ للعواطف السهلة. القليل النادر منها يذهب أبعد من ذلك، ليُحقّق شرط التميّز الجمالي، ويُشكّل فرصةً لاختبار أحاسيس مُعقّدة عن معنى الحبّ وتراجيديا العيش المشترك، بفضل سيناريو ذكي، يستدعي مواقف مركّبة، ووضعيات غنيّة تُنتج مفارقات درامية وفكرية مثيرة للاهتمام.
"معاً فعلاً"، الفيلم الطويل الثاني لنيكول بيكويث، ينتمي إلى هذه الفئة الأخيرة.
في مشهد الافتتاح، يطرح ماتّ (إد هيلمز)، رجلٌ في عقده الرابع، أسئلة شخصية الطابع على آنّا (ممثلة الكوميديا الصاعدة باتّي هاريسون)، فتاة في أواسط العشرينيات، تجيب عنها بصراحة، وبنوع من فتور غير مكترث، قبل أنْ تعضّ على شفتيها ندماً على أجوبتها، وما يمكن أن ينتج من سوء فهمها. في البدء، يبدو أنّ الأمر يتعلّق بمقابلة عمل خرجت عن حدود اللياقة، قبل اكتشاف أنّها مقابلة لاختيار أمّ بديلة، تؤجّر رحمها لحمل جنين ماتّ. تزداد وضعية البدء غرابةً، وبالتالي إثارة للاهتمام، حين يُعرَف أنّ ماتّ أعزب، عاش تجربة زواج مُخيّبة، انتهت بانفصاله عن شريكته، فقرّر عيش تجربة الأبوّة خارج إطار الزواج. بينما أنجبت آنّا سابقاً طفلاً من حمل لاإراديّ، فقرّرت التخلّي عنه عبر تقديمه للتبنّي، فأدّت هذه التجربة إلى عزلتها، بسبب خلاف مع شريكها السابق، وفتور مع عائلتها غير الراضية على اختياراتها في الحياة.
نحن أمام شخصيتين، تعانيان شرخاً عاطفياً عميقاً، جرّاء تجربتيهما السابقتين غير الموفّقتين. تعيشان الوحدة لأسباب مختلفة جذرياً، لكنّ كل واحد منهما يتجنّب الارتباط بشكل شبه لاإرادي، لتجنّب الوقوع في حبٍّ جديد، قد يُسبّب مزيداً من الجروح العاطفية. هذا يُنبئ بتحقّق شرط الدراما الكوميدية الذهبي الأوّل: التجاذب في إطار التنافر، أو العكس.
ما إن يلتقي الشريكان في موعدهما الأول، بعيداً عن برنامج الفحوص الطبية، وتظهر بوادر تقاربهما الناشئ من شعور أبوّة مشتركة، ولو خارج الارتباط العاطفي، حتى تنشب بينهما خلافات حادّة حول مسائل طريفة: مدى صحيّة ما تأكله الأمّ، وانعكاس ذلك على الجنين، مثلاً؛ خصوصاً حين تجذب آنّا انتباه ماتّ إلى أنّ صحيّة ما يأكله تهمّ أكثر من طبيعة أكلها، لأنّه "سيعيش برفقة طفله المرتقب لعقودٍ، بينما لن تعيش هي معه سوى أشهر قليلة". إحدى نقاط قوّة الفيلم أنّ وازع "النسوية"، الذي يتخلّل تمفصلات كثيرة في الحكي، كهذا المشهد، يحمل عمقاً ونبرة خفّة ساخرة، تبتعد عن خطاب النسوية الأولية، الذي نسف ـ بمباشرته وطبعه المتشنّج والمحتدّ ـ طرح أفلام مخرجات غير قليلات.
ميل ماتّ إلى الاحتكام إلى البنود القانونية للعقد، بدل عقد تفاهم حبّي مع آنّا، في كلّ مرّة تُطرح فيها خلافات حول أسلوب حياة هذه الأخيرة (مدى أحقيتها في ممارسة الجنس في فترة الحمل. امتثالها لإملاءات ماتّ، المسرفة في الحرص على صحّة الجنين، إلخ)، يطرح أسئلة مهمّة عن حقّ المرأة الحامل في تملّك جسدها، وحدود لياقة ما يمليه عليها محيطها في هذا الشأن. مفارقة تجد أوجَها في مشهد بديع، حين تجتمع عائلة ماتّ وأصدقاؤه المقرّبون في حفل تلقّي الهدايا، فيتعرّفون إلى آنّا للمرة الأولى، لكنّهم لا يكادون يُعيرونها أي انتباه، لاهتمامهم فقط بالجنين الذي في بطنها، أو لتركيزهم في حديثهم على تفاصيل تنظر إليها كـ"بطن مؤجَّر"، ما يؤدّي إلى تشييئها ونكران شعور الإنسان (الأمّ) فيها.
ينقسم "معاً فعلاً" إلى 3 فصول، يوافق كلّ واحد منها 3 أشهر من الحمل. تفتّق ذكاء المخرجة ـ كاتبة السيناريو على جعل الأحاسيس فيها توافق نبرة شعور الوالدين في المراحل المختلفة للحمل. شَكّ وتقارب حذر في البداية (فترة تثبيت الجنين)، ثمّ توطيد العلاقة في المتن (فترة النمو)، قبل أنْ تحلّ مرحلة التوتّر بسبب فارق السنّ، والمزاجية الهرمونية في المرحلة الثالثة والأخيرة (التوتّر الذي يسبق الوضع). بناء درامي ذكي يعزّزه أسلوب إخراج دقيق وكيّس، يقع في مكان ما بين سخرية سينما وودي آلن، المرتكزة على المواقف المفارقة، وطابع الحلو ـ المرّ لأفلام جاد آباتاو، عن التوفيق بين مادية متطلبات الحياة العائلية، وغواية الرغبة الفردية.
تعتمد نيكول بيكويث على سلاسة الحوار تارة، وعلى لحظات صمت حمّالة لمعانٍ أصيلة تارة أخرى، على غرار مشهد رائع يقف في أثنائه ماتّ وآنّا أمام تشكيلة من اختيارات الألوان الملصقة على الحائط، ترقّباً لطلاء غرفة الطفل القادم، فيتناوبان على إماطة الألوان عن الحائط، الواحد تلو الآخر، قبل أن يختارا لوناً متفرّداً وغير متوقَّع، فيقرأ ماتّ مغزاه وتداعياته النفسية في دليل الألوان، وتلطم آنّا بحركة مفاجئة الكتاب ليسقط من يده. استعارة مُلهمة لسعي الشخصيتين إلى إيجاد مساحة تفاهم بين نظرتيهما المتباينتين للحياة، عبر مشاركة آنّا أخيراً في صوغ مستقبل الجنين الذي تحمله، وابتعاد ماتّ عن حرصه المدرسي، وبحثه المَرَضي عن الخلاص في العقود والمطبوعات.
تبقى أجمل لحظات الفيلم مَشاهد المونتاج عن حصص التكوين، والمصارحة النفسية التي يحضرها الشريكان، كلّ واحدٍ منهما على حدة في البداية، فيتبدّى لهما مدى عزلتهما وتفرّد حالتيهما، حين تكتشف آنّا أنّها الوحيدة التي تؤجّر رحمها، من دون أنْ تكون جزءاً من عائلة قائمة بذاتها، ويتبدّى لماتّ أنْ لا أحد غيره في المجموعة يسعى إلى الحصول على جنين من أمٍّ بديلة، من دون أنْ يكون جزءاً من علاقة ارتباط عاطفي. هذا قبل أنْ يجتمعا في حصّة تمارين جسدية تسبق الوضع بأسابيع قليلة، فيضع كلّ منهما رأسه على الآخر، وتفصح آنّا أخيراً عن مشاعرها الدفينة، بينما يهمهم ماتّ بكلمات تشجيع بالكاد تُخفي حبّه الواضح لآنّا.
مشهد المصارحة بالحبّ، الذي يجمع بينهما وهما مستلقيان على سرير واحدٍ، بينما ينتظران تقارب نوبات الوجع المنبئ بقرب وضع جنينٍ، تكوّن من دون أي علاقة جسدية بينهما، بكلّ حمولة المشاعر الحبيسة التي تتحرّر فيه أخيراً، بلغة الأعين والحركات والعبرات؛ يُعدّ (المشهد)، من دون شكّ، أحد أجمل مشاهد المصارحة بالحبّ في الشاشة الفضية.
"معاً فعلاً" فيلمٌ سخيٌّ، ينسج ـ بفضل مواقف درامية أصيلة، وحوارٍ يمزج بين الطرافة والعمق العاطفي ـ حكايةَ تقاربٍ بين روحين كسرتهما ظروف الحياة، قبل أنْ تجمعهما معجزة الحياة، المتمثّلة برضيع يرى النور، على عكس العادة، في اللحظة نفسها التي يتوثّق فيها رابط حبٍّ متينٍ بين والديه.