تأتمر الفنون في سورية لدعاية الحاكم الإعلاميّة، منذ استولى نظام "البعث" على السلطة. وتعكس سيرة التلفزيون السوريّ بعد "ثورة البعث" هويّة تلك الرؤية، التي نضجت بقوّة مطلع الثمانينيّات. ولعلّ المشاهد العربي فاته أنّ برنامج "شوفوا الناس" التلفزيونيّ، كان يعدّه الممثل السوريّ ياسر العظمة؛ هو النواة الأساسيّة لسلسلة "مرايا" الدراميّة الساخرة، التي امتدّت لأكثر من ثلاثة عقودٍ على الشاشةِ الصغيرة.
ويسأل البعض: كيف استطاعت هذه السلسلة أن تعبر غرف الرقابة التلفزيونيّة وتقارير "وهن نفسيّة الأمة" حسب التهم التي سنّها النظام السوري لأصحاب الأصوات الفكريّة والرأي؟
ببساطة، لم تكن هذه السلسلة إلا متنفساً شعبيّاً، يفرّغ النقد السياسيّ والاجتماعيّ من جوهره، ويحوّله إلى مادة مضحكة وساخرة؛ إذ تستحضر قصصها من الحياة السوريّة طيلة حكم نظام الأسد الأب والابن، وبأسلوب غير مباشر تقريباً، تمرّ التلميحات النقديّة عن الواقع.
وربما كانت لهذه التجربة فرصة لدفع الوعي الشعبيّ إلى الاستقرار والهزل المستمرّ من الذات السوريّة وخراب البلاد، إلى جانب مسرح دريد لحام، المدلل عند حافظ الأسد، منذ مطلع السبعينيّات.
ورغم "جرأة" الإسقاطات والمقاربات في "مرايا"، كانت الحدود مرسومة لـ العظمة كما غيره بدرجات، وبمنسوب "تحرّك" معيّن، يمنع المساس بـ "جيش الأسد"، وأسلوب إدارته للبلاد، وشخصه وسياسته الخارجيّة ومخابراته على نحوٍ عميق، ولا يفضح الرعب الدمويّ في زنزاناته. إنّما كان يهمس برموز مثل: "البلاء الأعظم" أو "الماجد بهاء"، تاركاً لمخيّلة المشاهد أن تجد إسقاطاً مناسباً على قهره الأمنيّ المحيط بحياته.
وقُدّر لـ العظمة، في مكان من سلسلته، تناول الفساد الثقافيّ والتربويّ والاقتصاديّ والتعليميّ والعادات والتقاليد، بقصص أحياناً تكون من الأدب العالمي، أو من وحي المأساة السوريّة، وذلك حسب توجيه الرقابة الأمنيّة، ومخطط تقسيمها المناطقيّ طائفيّاً للمجتمع. هذا ما رأيناه في الأماكن واللهجات السوريّة المستخدمة في قصص "مرايا" مثلاً، قرى السويداء، مجتمع الغوطة، بيوت الشام القديمة...إلخ، وتعكس كلّ بيئة هموماً، عادةً ما تكون مرتبطة بالمواطن والمسؤول، أو الحاكم والمحكوم، أو القوي والضعيف، أو الصادق والكاذب... إلخ.
هي، إذن، ثنائيّات الخير والشر، على أبعد تقدير، ونادراً ما كان يتناول العظمة الشأن السياسيّ الداخليّ. مثلاً عندما انشقّ عبد الحليم خدام، نائب حافظ الأسد، وكاتم أسرار انقلابه وغطرسته، تناوله العظمة بشكل مباشر في خطاب موجّه للمشاهد ضمن إحدى حلقات "مرايا"، وأشار إلى صفقات النفايات الكيماويّة في سورية التي أبرمها خدّام بتوجيه من الأسد. وذلك كان أقصى ما وصلته "مرايا"، أي إطلاق الشتائم والنقد على من كان أحد أعمدة النظام وفساده بعد التخلّص من خدماته.
أضف إلى أنّ مشروطيّة الحريّة ألحقتْ هذه السلسلة بعمالة أشخاص دون مستوى الموهبة التمثيليّة البارزة في الفن السوريّ. المقصود هنا ظهور أشخاص مثل بشار إسماعيل وعارف الطويل، المفروضين على "مرايا" لمواسم كثيرة، والمرجّح قربهم الأمنيّ من النظام الذي ظهر جليّاً مع بداية "الثورة السوريّة".
لقد كان المُشاهد السوريّ ينظر إلى حياته في "مرايا"، ثمّ يضحك على نفسه وخيبة مجتمعه الغارق في الاستبداد والقبضة الأمنيّة والفساد.
أمّا اليوم، وبعد مرور نحو عشرة أعوام على تغيّر مشهد الحياة في سورية، بسبب الثورة، وما لحقها من صراعٍ دوليّ وإقليميّ على المصالح، يطلع علينا صانع "المرايا" من خلال فيديوهات وطدتْ علاقته بمواقع التواصل وأهلها، وحصدتْ مئات آلاف التفاعلات حين بدأ ينشر صوراً أرشيفيّة من كواليس "مرايا"، والشخصيّات الكثيرة التي لعبها العظمة ببراعة، وراهن على ذكاء المشاهد وتلميحاته، ليكون شريكاً تفاعليّاً في منابره الجديدة على الميديا. لكن ذلك لم يُرجع الذائقة بعد الثورة إلى تقبّله كـ "مهرّج" للوجع، إنما كان مسافراً في مشاغله الأدبيّة والترميزيّة بخطابٍ مشوّش.
وبعيداً عن تحليل المحتوى، حسم الرجل خياره بالظهور الدوريّ على منصات التواصل الاجتماعيّ، بفيديو أسبوعيّ كلّ اثنين (توقف مؤخراً لانشغاله بعملٍ تلفزيونيّ)، بعد تلميح لعدم التوافق أخيراً مع شركة إنتاج يمكن أن تحمل نسخة جديدة من مسلسله.
اتخذ العظمة من مكتب - يبدو فخماً - منصة ليسجل بضع دقائق، نظماً شعريّاً ونثراً إنشائيّاً، يستحضر ذكريات، ويوجّه رسائل شخصيّة، على منوال: الملافظ سعادة وأساتذتي والمتنبي والكرة الأرضيّة والإعلام والحمام الزاجل... وهي بعض العناوين لفيديوهات إلقاء "مسرحيّ"، نشرها على قناته الخاصّة على يوتيوب.
وفي إحدى الحلقات وجّه ردّاً قاسياً لمحطة تلفزيونيّة كان أحد ضيوفها، كاتباً صحافيّاً، قد تناول نشاطه الأخير على مواقع التواصل الاجتماعيّ، بالنقد! لم يحتمل العظمة أن يمسّ أحد بتجاربه الأخيرة - على تواضعها - إذ بدت وكأنّها جلسة مواعظ ونظم لـ "فنان يتّكل على تاريخه"، ولم يعد لديه ما يقوله!
هل استهلك جلّ قدراته في التأثير بالرأي العام، وتجمّدت إمكانيته الفنيّة في "مرايا"، وانساق نحو تجارب الهواة على فيسبوك؟ هل استقرّت في التلفزيون كلّ الأفكار النقديّة المكررة التي سمحت له "سلطة الأسد" بالمرور عليها، ليكون نموذجاً وحيداً لـ "الحرية المبسترة"؟
تابعنا ما قدّمه "العظمة" في تلك الفيديوهات، وأظهرته لغته ومواضيعه في موضع استجداء العودة إلى الشاشة، ووجد في جمهور الشبكات الاجتماعيّة ضالّته، ولكن لم ينقذه أسلوب سجعه المعروف في الكلام، ليعيد للمخيّلة السوريّة تأثيره ما قبل "الثورة". فالصمت المطبق الذي اتخذه العظمة طيلة سنوات الحرب كان مدروساً، ويعتقد أنّه كان يريد العودة إلى سورية، ليكمل "استثماره" الفنيّ في أوجاع الناس، وهذا هو دوره الذي لم يغيرّه على الأرجح؛ فالشارع لن يصدّق إلا حقيقة الدم الذي ينزف منذ آذار/ مارس 2011 حتى اليوم.