"مبنى أبيض" كمبوديّ: جماليات مصنوعة بأسلوب تقليدي

21 فبراير 2022
كافيتش نينغ في "لا موسترا 2021": بطاقة حمراء ضد شركات عقارية (مارك بيساكي/Getty)
+ الخط -

 

يتناول الفيلم الكمبودي "مبنى أبيض" (2021)، لكافيتش نينغ، الصراع بين الحداثة والأصالة، وبين القديم والجديد، وبين العجلة المُسرعة للاقتصاد والدروب الملتوية للإنسانية. ثنائيات ضدّية، تُعرّف ماهية الأشياء وقيمتها، بالإضافة إلى مفارقاتٍ أظهرت هشاشة الإنسان وتقلّباته، خاصة مع أيّ مواجهة محورية تُهدّد حيّزه الآمن، الذي عمل سنيّ عمره على إحاطة نفسه وأسرته به، للاحتماء من مخاطر خارجية.

يصدف أنْ تتشكّل هذه المسائل في قوالب، لم يُحسب لها حساب، فتُختَار المواجهة اليائسة، التي تشبه صورة كاريكاتورية عن نملةٍ تواجه فيلاً، فتُحسم النتائج قبل أنْ تبدأ.

هذا حدث في "مبنى أبيض" ـ المُشارك في مسابقة "آفاق"، في الدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، التي منحت بَيسث تْشون جائزة أفضل ممثل. فشخصياته مأزومة ومُحاصرة بمشاكل مستحدثة، عاكسة صراعات أفرزها الواقع المُتغيّر والمتنامي، والمتوجّه إلى تحوّلات كبرى، انطلاقاً من واجهات فضفاضة، مدفوعة بشعارات التطوّر، حوّلها نينغ ـ في فيلمه هذا (السيناريو له أيضاً، مع دانيل ماتس) ـ من مفاهيم وشعارات الى مجتمع ينبض بالحياة، انطلاقاً من مبنى تسكنه عائلات عدّة، يُفاجأ أفرادها بقرار السلطة بضرورة إخلائه، مقابل مبالغ مالية زهيدة، لا تكفي لشراء منازل في الضواحي. تحتار العائلات ويتشتّت تفكير أفرادها، وتبدأ مواجهة يائسة تقود الجميع إلى الفشل، فالطرف الآخر تُمثّله شركات عقارية كبرى، تملكها بلدان قوية، حاصرت كمبوديا بحزام اقتصادي قوي، سحب منها روحها واستقلاليتها وحضارتها، من أجل التطوير ومسايرة العصر والحداثة، التي تسلب أرواح الأشياء، تاركة إياها واجهاتٍ جافة.

ضبط نينغ إيقاع قصّته في عينيّ سامْنَنغ (بَيسث تْشون)، الذي وجد نفسه محاصراً بمشاكل عدّة، بدءاً من مشكلة المبنى الذي تقطنه أسرته. رفض والده (هوت سيثورن) ـ الذي اختير للتحدّث باسم السكّان في مفاوضاته مع السلطات ـ المبلغ الزهيد الذي عرض عليهم، في مقابل أناسٍ وافقوا وقبضوا ورحلوا. ظلّ الوالد يواجه ذكريات الماضي، التي صنعها في بيته. يعرف أنّه سيُرَحّل حتى لو رفض، لكنّه تشبّث بخيار المواجهة، الذي تعلّمه في شبابه حين بدأ مع آخرين في تشييد "بنوم بنه"، لكنّهم لم يعرفوا حينها أنّ المدينة، التي كانت مزدهرة يوماً ما بفضل أفعالهم لها، ستلفظهم اليوم، وتطردهم خارجها، كأنّهم لم يُقدّموا شيئاً.

سامْننغ يرى الألم النفسي، والألم الجسدي أيضاً، الذي يعانيه والده بسبب إصابة قدمه بمرض خطر، ومع هذا رفض العلاج وإجراء عملية جراحية بسبب التكاليف، فعالج نفسه بطريقة تقليدية، لكنّ الجرح كبر، وباتت القدم معرّضة للبتر. في حالة كهذه، نسي سامْننغ، الخارج لتوّه من المُراهقة إلى الشباب، حُلمه بتأسيس فرقة موسيقية، ومطاردة الجميلات. تفرّق أصدقاؤه، إذْ سافر بعضهم مع العائلة إلى الخارج، وآخرون ذهبوا في حال سبيلهم، فاختفى الحلم، وبات سامْننغ يواجه مباشرةً الواقع وتفاصيله المرّة، كالبطالة وقلّة الفرص، ثم بداية صراع البقاء.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

يرفع كافيتش نينغ ورقة حمراء في وجه الشركات العملاقة، والاستثمارات التي تسحق القاع لتحقيق أرباح مالية ضخمة، من دون مراعاة ظروف الإنسان وقيمه. لا تعترف الشركات بأي موروث، مهما كان حجمه، وتدوس على أي قيمة تراثية، ولا يهمها الإنسان إطلاقاً.

في سياق فيلمه، قدّم نينغ دلالات عدّة تُشير إلى معانٍ مضبوطة، قوّى بها موقفه الفني، وخلق بها لغة سينمائية قوية، جاعلاً الأب رمزاً للماضي والذاكرة التي تعاني، والتي تحمي الجدران من النسيان، وتعرف قِيم الفرد، وتبقى وفية لمن بنى المدينة التي تلفظه الآن. يعكس الأب قِيم الماضي ومبادئه وأسسه وروحه، ويساريته أيضاً، فهو لا يريد أنْ يخسر منزله المليء بذكرياته، ولا المبنى المنتمي إليه كفرد ـ جزء من المجتمع، في مُقابل فُتاتٍ لا يساوي شيئاً. كان بوسعه عقد صفقة ثنائية بينه وبين المسؤول، لكنّه رفض بيع قضيته، تاركاً إياها لمصيرها المحتوم. أما سامْننغ، فيمثّل الحاضر والمستقبل، ويرمز إلى الغموض الذي يواجه الشباب، وأحلامهم الموؤودة بسبب الاستثمارات، ويواجه المشاكل التي تحاصر الحلم وتبيده باكراً، قبل عثوره على فرصة تحقيقه.

معطيات مؤلمة كهذه تعكسها ملامح الشخصيات وتصرّفاتها، بوجوهها وعيونها، إذْ يُمكن التنبّه إلى شعور اللاجدوى والفشل واليأس في تلك الملامح، بفضل قوّة القصّة ومآسيها، وحِرفية الممثلين في تأدية أدوارهم، لفهمهم الموضوع والشخصيات جيداً، ما جعلهم يُدركون التفاصيل أيضاً.

تظهر جماليات "مبنى أبيض" ـ المُشارك في الدورة الـ5 (14 ـ 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ في عناصر عدّة، أهمها البناء السردي الذي لم يخرج من العادي، إذْ حافظ نينغ على عناصره المعروفة (مقدّمة وعرض وخاتمة)، لأنّ متطلبات القصّة فرضت هذا، حارمة إياه من تجريب قوالب أخرى. وتيرة الأحداث سارت ببطء كبير، لكنّها لم تكن مُملّة أو مُنفرة، وخدمت القصّة، وضاعفت إحساس المتلقّي بالفَقد والفراق وجروح الماضي، وبمواجهاتٍ يصنعها الحاضر.

أحاط التصويرُ (دوغلاس سوك) المشاهدَ بفضاءات الحدث، وخلق تضاداً بصرياً جميلاً بين الهدم والبناء، مُظهراً المباني القديمة والجديدة، والمدينة وضواحيها. هذا رسَّخ الجماليات، بمشاركة مونتاجٍ (فليكس ريم) مُنسجم مع التسلسل، فتكوّنت الجمالية الكلّية التي أثارت رضىً بصرياً ومتعة مُشاهدة.

المساهمون