"ليلة الملوك" لفيليب لاكوت: أصالة سينمائية تُغلِّف سياسةً ومُتخيّلاً

12 مايو 2021
فيليب لاكوت في "مهرجان فينيسيا 2020": فنّ السرد السينمائيّ (إليزابيتا فيلاّ/ Getty)
+ الخط -

يستلهم الإيفواري فيليب لاكوت (1969) نصّه السينمائي من حكاية "ألف ليلة وليلة"، مختصراً حكاية "ليلة الملوك" (2021) بيومٍ واحد فقط، تجري أحداثه في سجن "لا ماكا"، أكبر سجون ساحل العاج (كوت ديفوار)، في أبيدجان. جوهر فكرة الحكاية الشرقية "القَصّ"، وقدرته العجيبة على تجنيب من يملك موهبة سرده مصيراً تراجيدياً محتوماً. ينبوعه لا ينضب، طالما أنّه قرين مِخيال مُتجدّد وقابل للتطويع، وحكاية السجين رومان (الاسم بالفرنسية يعني رواية، Roman) تكاد تجتمع فيها كلّ ضروب الإبداع السردي. تأطيرها في سياق بصري/ فيلمي يُحيل المكان والأحداث إلى هوامش، وإلى مركز لا صلة له بسينما السجون المعتادة، إلاّ بمقدار ما يقوّي من أنساق وسائل تعابيره السردية المتدفّقة حيويةً، والمتساوقة مع خيال سينمائي، يُبَدل شكل السرد البصري التقليدي بآخر متشابك مع أساطير وحكايات مُخَترعَة، تقارب واقعاً بائساً، يؤشّر السجن الرهيب، الخارج عن السيطرة، إلى وجوده.

مشهد سَوْق الشاب رومان (باكاري كوني) إلى السجن يكفي لاختصار مناخه الداخلي العام. إدارته عاجزة عن السيطرة عليه. تكتفي وظيفياً بمراقبة ما يجري فيه من بعيد، من دون تدخّل مباشر، أو رغبة في تغيير قواعد عيش، وضعها السجناء لأنفسهم، وظلّوا أُمناء لها. سوء حظّه جاء به في اللحظة التي تقرّر فيها وضع حدّ لحياة قائده وزعيمه المهيب، بلاكبيرد (ستيف تيانتْشو)، حامل لقب دانغورو. تقضي التقاليد، عند عجز القائد أو مرضه، بوضع حدّ لحياته، واختيار بديل له. أراد دانغورو إطالة عمره، بتنشيط وسيلة تسلية قديمة للسجناء، تقضي باختيار واحدٍ منهم لسرد حكاية في ليلة "القمر الأحمر"، وفي حالة عدم اكتمالها عند بزوغ الفجر، يُحكم عليه بالموت.

اختيار رومان راوياً للحكاية مُتوقَّع. المُفاجِئ فيها اكتشافه قدرته الذاتية، وموهبته في سردها، والمضي فيها من فصل إلى آخر. الأكثر إدهاشاً، في تجسيدها السينمائيّ، يكمن في مقاربتها فنوناً بصرية أخرى (مسرح، أوبرا، غناء) تتشارك معها، وتُرحَّل فصولاً منها إلى خارج أسوار السجن، بفعل قوّة الكامن فيها من خيال. مسرحة الحكاية تتأتّى من مشاركة السجناء في إعادة تمثيل مقاطع دراماتيكية، ترد في سياق سردها الشفاهي. بالغناء الأوركستراليّ، والأداء الأوبرالي المحلي، يرفعون مستوى التعابير البسيطة للراوي إلى أعلى (موسيقى مذهلة لأوليفييه ألاري). يضيفون إلى أحداثها، من عندهم، تفاصيل مُتخيّلة لديمومة إثارتها. لا يكتفون بسماعها، بل يتفاعلون معها، وأحياناً يُغيّرون بعض مجرياتها. يلعبون دور الناقد. يواجهون المقطع الضعيف بصيحات استهجان، والجيّد بترحيبٍ، وبمزيدٍ من التشجيع على مواصلة الكلام.

الحركة النشيطة، والانفعالات العنيفة على أرض السجن، وزوايا غُرفه الضيقة، تلازمها حركة كاميرا محمولة، لا تكفّ عن الملاحقة. الضوء الداخلي الضعيف، في الأقبية وأوقات الليل، يُضفي على المَشاهِد وهجاً خافتاً، يقارِب لون القمر الأحمر، المُنذِز بشؤم مُبين. التصوير (توبي مارييه روبيتاي) يعلن ابتهاجاً بتنويعات مَشهدية، تختبر مهارته وقدرته على استيعابها ونقل مناخاتها، بما يتوافق مع كلّ حركة من حركاتها المتفاوتة بحدّة، ومستويات تعبيرها، وشدّة نقل قتامة أجوائها.

 

 

من وسط الجموع المهتاجة، تظهر شخصيات تؤثّر على مسار الحكاية، وتدفع راويها إلى المضي في اشتقاق مزيدٍ من القصص الجانبية، المُكمِّلة لها. المنافس على الزعامة، لاس (عبد الكريم كوناتي)، يكرّس نفوذه لامتلاك سلطة أكبر، تماثلها تسقيطاً ـ في سياق الأحداث ـ سلطةُ الدولة. لولا تحذير السجين الأبيض الوحيد، سايلنس (دوني لافان)، لرومان، لتعب من الكلام، وتوقّف، ولكان الموت في انتظاره. من دونه، لما لجأ الراوي إلى سرد حكايته الشخصية. وعندما زاد الخطر اقتراباً منه، أضاف إليها قصّة صديقه القديم زاما كنج. ولولا خشيته المتزايدة من احتمال ضجر السجناء من برودة حكايته، وضعف نهايتها، لما راح ينسج إلى جانبها مرويّات أخرى، تتشابك فصولها مع أحداث دموية شهدها البلد (يسمّى أيضاً ساحل العاج)، ودفعته إلى الانضمام إلى عصابات جريمة، بعد تشرّد وضياع.

في ثنايا أسطورة زاما كينج، يظهر الخراب السياسي. يتورّط رئيس العصابة، بوقوفه إلى جانب زعيمٍ انقلب على رئيسه، وسيطر على الحكم. نهاية زاما جاءت على يديّ مؤيّدي الزعيم السياسي المغدور، ودخول الشاب إلى السجن جاء بتأثير ما تركته الصراعات الدموية على السلطة من آثار موجعة، دفعته إلى طلب الحماية من لصوص وقُطّاع طرق، عبثوا في المدينة، وأحالوها خراباً.

هذا التعدّد، في مستويات السرد السينمائي وتنويعاته، يفرض وجوداً لمخرج وكاتب يعرف كيف يمسك بها، ولا يترك مجالاً لتفلت من بين يديه. في هذا، يبرع لاكوت (كاتب السيناريو أيضاً)، مُنبّهاً في اشتغاله الباهر، كما في باكورته الرائعة "ركض" (2014)، إلى أصالة سينمائية أفريقية، تستلهم واقعها وتاريخها، وتعيد صوغه بأسلوب يجمع الخيال بالواقع. السينمائي الموهوب يقدر على تسريب المشهد السياسي وخرابه بين سطور الحكاية المُتخيّلة، من دون أنْ يُقلّل كثرة ما فيها من جمال. "ليلة الملوك" مثلٌ أفريقي عليه.

المساهمون