"لا موسترا ــ 79": جمود خيال وإفلاس إبداعي

19 سبتمبر 2022
لاورا بواتراس: أسد ذهبي لـ"كل هذا الجمال وسفك الدماء" (سْتِفانيا داليسّاندرو/وايرإيماج)
+ الخط -

 

بعد الإعلان الرسمي عن أفلام الدورة الـ79 (31 أغسطس/آب ـ 10 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (لا موسترا)"، وقبل ساعات قليلة على بدء الفعاليات الواعدة، خاصة المسابقة الرسمية، كانت كافة التوقّعات تؤكّد أنّ هذه الدورة ستكون "ناريّة" بامتياز، نظراً إلى الأسماء المُكرّسة، المشاركة في الأقسام المُختلفة، وأوّلها المسابقة الرئيسية. أفلامٌ عدّة مُنتَظرة، وعليها عُقدت آمال كبرى، ومستويات أفلام أخرى كانت محلّ تكهّنات محضة. قلّة، لا سيما تلك الخاصة بأسماء غير مُكرّسة، لم تكن مُثيرة لاهتمام وتوقّع كبيرين.

مع تقدّم أيام المهرجان وعروض الأفلام، تكرّرت، بل تكرّست خيبة الأمل التي سبّبها فيلم الافتتاح، "ضوضاء بيضاء"، للأميركي نواه بومباك. تواترت أفلام المسابقة الرئيسية، مثلاً، بمعدل فيلمين أو ثلاثة أفلام يومياً. لكنْ، بمجرّد انتهاء عروض كلّ يوم، وبدء عروض اليوم التالي، تُنسى عروض اليوم السابق، أحياناً كلّها، كأنّها لم تكن، إلى درجة أنّه، مع اقتراب نهاية الدورة هذه، أجمع الحضور السينمائي على أنّ للأفلام كلّها المستوى نفسه تقريباً. ليس هناك ما استوقف الانتباه. لم ينوجد فيلمٌ يُمكن اعتباره تُحفة سينمائية خالصة، أو جوهرة المهرجان. لذا، كان صعباً، فعلاً، التكهّنُ بمعظم الجوائز قبل إعلانها، على غير العادة.

 

لا إبهار ولا متعة

هذا طَرح أسئلة عدّة، أغلبها مُتعلّق بجمود المستوى السينمائي، وفقر الخيال، والإفلاس الإبداعي، على أسوأ تقدير، ليس بخصوص أفلام "مهرجان فينيسيا" فقط، بل إنتاجات هذا العام، إجمالاً. لا يعني هذا أنّ أفلام الدورة الـ79 سيئة، أو رديئة، أو دون المستوى، أو مجرّد حشد لأسماء نجوم ونجمات ومخرجين ومخرجات. الأمر ليس كذلك بالتأكيد. فالغالبية الساحقة من الأفلام المعروضة جيّدة الصُنعة، بل ومُحكمة جداً، أحياناً كثيرة. المشكلة الكبرى كامنةٌ في أنّها "مُشاهَدة من قبل"، أي أنّها "Deja vu"، فلا جديد على مستوى الأفكار والموضوعات، والحبكة وتطويرها وتعقيدها. لا عمقاً في الأحداث والشخصيات والطرح. لا رؤية فلسفية جديدة، ولا تأمّلاً عميقاً. على الأقلّ، لا يوجد تناولٌ سينمائي مُختلف أو مُغاير، يُبهر الأبصار، ويُمتّع النظر.

أيضاً، لا جديد يجذب الانتباه على مستوى المونتاج والإيقاع والتشويق والغموض. وذلك رغم حرص البرمجة على التنوّع الشديد، ووجود كافة الأنواع السينمائية في مختلف الأقسام: موسيقيّ، رعب، وسترن، سيرة، اجتماعي، وثائقي، تاريخي، تحريك، سياسة، إلخ.

طبعاً، هناك استثناءات، في الطرح والشخصيات، كما في المُعالجة السينمائية والجماليات البصرية. لكنّها قليلة للغاية. من هذه الاستثناءات، برز "حواجز إينشرين" للأيرلندي مارتن ماكدونا، الفائز بجائزة مُستحقّة، "أفضل سيناريو"، لتميّزه (الفيلم) بين أفلام المسابقة بجدّية قصّته وفرادتها وأصالتها، مُقارنة بغيره. كذلك، رسم أجواء صادقة وشخصيات حية وأصيلة وجديدة، ما أهّل ممثّله الأساسي، كولِن فاريل، للحصول على جائزة "كأس فولبي لأفضل ممثل" عن تأديته دور بادريك، أمام نجم آخر، برندن غلِزن، في أدائه المُبهر لشخصية الموسيقيّ كولم. إجمالاً، يُذكِّرنا "حواجز إينشرين" برائعة الإيطالي فيدريكو فيلّيني "ثمانية ونصف"، وأفلام سيرة أخرى.

على المستوى البصري والجماليات السينمائية، لم يتخطّ أي فيلمٍ جماليات "باردو، توثيق مزيّف لحفنة حقائق" (180 دقيقة)، للمكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، الذي تضمّن، بمزجه الخاص بالعام والسيرة بالتاريخ، مشاهد محدّدة، تُعتَبَر، بأريحية تامّة، تحفة فنية إخراجية، من حيث التكوين، وإدارة المجاميع، وحركة الكاميرا، وتنوّع اللقطات. الجديد أنّ إيناريتو يضرب بقوّة وجرأة، وبسخرية غير مسبوقة في عمق التاريخ السياسي، بين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك.

 

 

في اجتهاد إخراجي وبصري آخر، وقبلهما الاشتغال على الحبكة، واستغلال المكان المُغلق، وقلّة الشخصيات، نجح الإيراني وحيد جليلفاند في تقديم الجديد والمُختلف، في فيلمه الروائي الثالث، "وراء الجدران". المُشكلة الوحيدة فيه اختباره طويلاً لصبر المُشاهد. فبعد تجاوزه أكثر من ساعة ونصف الساعة، تبدأ أمورٌ في التكشّف، وتنجلي خيوطٌ، وتترابط صُورٌ بعضها ببعض. ثم، تدريجياً، قبيل الخاتمة، تُدرَك الصورة الكلّية، ويسطع العمل.

على نقيض المكان المُغلق، وحبسة الجدران، وظّف الفرنسي اليوناني رومان غافراس الفضاء المفتوح، مُستغلّاً إياه أحسن استغلال، ومُوظّفاً تقنيات بصرية لافتة بشدّة، مع حركة كاميرا حيوية ونشيطة، وموسيقى ملحميّة مُميزة، ولقطات حرّة تمتدّ دقائق طويلة، من دون مونتاج. وهذا في فيلمه الروائي الثالث (أيضاً) "أثينا". الجهد الفني الملحوظ لم يُقدِّم جديداً، أو يطرح مُغايراً، ما أدّى إلى خروج الفيلم، كنسخةٍ شبه مُطابقة للأفلام التي تتناول العلاقة الشائكة والعنيفة والدموية، أحياناً، بين الشرطة الفرنسية وشباب الجالية العربية. ما استحضر بقوّة فيلم "البؤساء" (2019)، للماليّ لادج لي، المُشارك في كتابة سيناريو "أثينا".

 

أسرة ومجتمع ومارلين مونرو

مُقارنة بأعماله السابقة، ذات المستوى المُتفاوت، التي جرى التعامل معها سياسياً قبل أي شيء، في تغافل أو تساهل مع الفنّيات وغيرها، أكّد الإيراني جعفر بناهي، في جديده "لا يوجد دببة"، على خصوبة خياله، وصدق موهبته. في الفيلم، الفائز بجائزة "لجنة التحكيم الخاصة"، يخلط جعفر بناهي، بمهارة، الخاص بالعام، على نحو أكثر فنّية وحِرَفية ودرامية وإقناعاً، بلا أي افتعال، من دون أنّ يتخلّى، صراحة هذه المرة، عن توجيه انتقادٍ كثير، أو اتّهامٍ للمجتمع الإيراني وأفراده، قبل النظام السياسي.

"روابطنا"، لرشدي زم، أحد أبرز أفلام المُسابقة تكثيفاً، وصولاً إلى الهدف مُباشرة، ناقلاً رسالته الإنسانية من دون تعقيد أو حذلقة، وبصدق تام. ينتمي الفيلم إلى مجموعة واسعة من الأفلام الاجتماعية، المعروضة في مختلف الأقسام، والمُتمحورة حول العلاقات الأسرية في فترات مُختلفة، بين الأشقاء في الأسرة الواحدة، كـ"روابطنا" و"من أجل فرنسا" لرشيد حامي، المعروض في قسم "آفاق"؛ أو بين الرجل والمرأة والأبناء، وصعوبة العلاقة الأسرية في ظلّ التحدّيات اليومية، وبروز مشاكل نفسية وجسدية وخُلقية، مرتبطة بأحد الأبناء، مثل "الهائلة"، للإيطالي إيمانويل كرياليز، مع حضور باهت لبينلوبي كروز، وقصّة بأحداث عادية، لم تُقدّم جديداً يُذكر. هذا انسحب أيضاً على "حب حياة"، للياباني كوجي فوكادا: علاقة تتعقّد بين حبيبين، تزوّجا مُؤخّراً. لكنّ الماضي يطلّ عليهما، متمثّلاً بالزوج الأبكم السابق للشابّة، الذي يتسلّل تدريجياً إلى حياتهما، بعد وفاة ابنه.

بعض الاختلاف ملموس في "الابن"، للفرنسي فلوريان زيلر، عن سيناريو المُحنّك كريستوفر هامبتون، الذي مضى أشواطاً بعيدة في تقديمه مشكلة الابن نيكولاس (زين ماكغراث)، المُضطرب نفسياً وسلوكياً، ومُحاولة والديه، المُنفصل أحدهما عن الآخر (هيو جاكمان ولورا درن) معرفة الأسباب، وإيجاد الحلول لعلاجه.

الشيء نفسه ينطبق على "الحوت"، للأميركي دارين أرونوفسكي، الذي اجتهد كثيراً ـ استناداً إلى الأداء الرائع للممثل براندن فرايزر، في دور تشارلي مفرط البدانة ـ في خلق التوازن بين علاقة أب بابنته المُراهقة، الكارهة له ولحالته الصحية. وقبل كلّ شيء، الاجتهاد في الخروج من نطاق الفيلم المسرحي، أو العزف على استدرار العواطف، واستمالة المشاعر. لكنّ أرونوفسكي لم يُوفّق كثيراً، إلّا في براعة إخراج أداءٍ ومشاعر ومواقف مُستهلكة.

في تقليدٍ شبه مُعتاد، في السنوات الأخيرة، يحرص المهرجان على وجود فيلم سيرة ذاتية في برمجته، في المسابقة أو خارجها. هذا العام، كان "شقراء" (166 دقيقة)، للأسترالي أندرو دومينيك، عن سيرة المُمثلة الأميركية مارلين مونرو، راوياً طفولتها المُعذّبة، عندما كانت نورما جين، وصولاً إلى ذروة مجدها في خمسينيات القرن الـ20. ركّز الفيلم على محورين رئيسيّين في حياتها: والدها، الذي لم تُقابله أبداً، ومُحاولتها الإنجاب. البحث وتخيّل شيء آخر في سيرة مونرو لم يُسفرا عن جديد. ورغم اجتهاد آنا دي أرماس، ونجاحها لدقائق ومَشاهد ليست قليلة في إقناعنا أنّها مارلين مونرو فعلياً، لم يحدث اندماج أو تماهٍ، رغم جهودها الواضحة.

 

 

هذا يُفسّر عدم فوز دي أرماس بجائزة "كأس فولبي أفضل ممثلة"، التي حصلت عليها الأسترالية كايت بلانشيت، عن دور ليديا تار، المايسترو وقائدة الأوركسترا الموهوبة والصارمة وقاسية القلب، في "تار" لتود فيلد. كما أنّها (دي أرماس) لم تحصل على جائزة "مارتشيلّو ماستروياني أفضل مُمثلة صاعدة"، التي كانت من نصيب الأميركية الشابّة تايلور راسل، عن دور مارين، في "عظام وكل شيء"، للإيطالي لوكا غوادانينو، الفائز بجائزة أفضل إخراج عن فيلمٍ، أفضل ما يُقال عنه إنّه جيد الصُنعة، إذْ لم يأت غوادانينو بجديد، خاصة في نوع أفلام الرعب وأكلة لحوم البشر، باستنثاء مَشاهد مُفاجئة قليلة، خبت تدريجياً، مع تقدّم مسار الأحداث.

المُثير أيضاً أنّ أداء راسل لم يكن بتلك القوّة، والجائزة ممنوحة لها فقط لأنّه لم يكن هناك، في الأفلام المُبرمجة، أصحاب أدوار أولى، أو ممثلين/ممثلات واعدين يستحقّونها، ما مَهَّد لها الطريق، ببساطة.

اللافت للانتباه أنّ جائزة التمثيل النسائي محصورة في نطاق ضيّق للغاية، بين كايت بلانشيت والبلجيكية الفرنسية فيرجيني إيفيرا، بطلة الدراما الاجتماعية النفسية "أولاد الآخرين"، للفرنسية ريبيكا زلوتوفسكي، بتأديتها دور راشيل، في منتصف أربعينياتها، التي لم يعد لديها وقتٌ كثيرٌ للإنجاب، بسبب العمر. في حين يزداد تعلّقها وانجذابها إلى أطفال الآخرين حولها: ابنة حبيبها، أولاد أصدقائها، رضيع شقيقتها.

 

نساءٌ في الطليعة

مُقارنة بالرغبة الحارقة لراشيل في الإنجاب، تسرد السنغالية الفرنسية أليس ديوب، في جديدها "سانت أومير"، قضية الطفل غير المرغوب فيه، من خلال قضية تُناقَش، في 123 دقيقة، في المحكمة. تطرح المخرجة، المشهورة بأفلامها الوثائقية عن الأفارقة والجالية السنغالية في فرنسا، قضايا العنصرية والظلم والفقر.

الفيلم ـ الفائز بجائزتي "الأسد الفضي ـ لجنة التحكيم الكبرى" و"لويجي دي لورنتس ـ أسد المستقبل لأول فيلم روائي طويل" ـ يسرد قضية الشابة السنغالية ذات الأصول المهاجرة لورانس كولي (كوسلاكي مالنغا)، التي تُنجب طفلة، سرّاً. وبعد بلوغها 15 شهراً، تتركها ذات مساء على شاطئ البحر، ليجرفها المدّ العالي، بعد إدراكها أنّ مستقبل الطفلة ومصيرها سيكونان قاتمين وغير عادلين، كحياتها.

المُثير هذا العام، منح لجنة تحكيم المهرجان، برئاسة الأميركية جوليان مور، "الأسد الذهبي (الجائزة الكبرى)"، للعام الثالث على التوالي، إلى مُخرجة، هي الأميركية لاورا بواتراس، عن جديدها "كلّ هذا الجمال وسفك الدماء". بواتراس (58 عاماً) مخرجة وثائقية معروفة، لها "المواطن أربعة" (2014) عن إدوارد سنودن، نالت عنه "أوسكار" أفضل فيلم وثائقي عام 2015. في جديدها، تقدّم شبه بورتريه، خاص جداً، عن المُصوّرة الأميركية اليهودية المشهورة والناشطة نان غولدن، وكفاحها وتأسيسها مُنظمة "ألم"، التي تصدّت لأزمة الأفيون في أميركا، وحاربت عائلة ساكلر، مالكة شركة أدوية ومُسكّنات للآلام ومُخفِّضة للحرارة، تسبّبت في حالات إدمان ووفيات كثيرة.

تُعيد الجائزة إلى الأذهان ما حصل عام 2013، وكانت المرّة الأخيرة التي مُنحت فيها هذه الجائزة إلى فيلمٍ وثائقي، "ساكرو جرا"، للإيطالي جيانفرانكو روزي.

المساهمون