"يُشرّفنا ويُسعدنا أنّ اثنين من الممثلين الاستثنائيين، اللذين كنّا مُعجبين بهما كثيراً أعواماً طويلة، موافقان على تلبية دعوتنا إلى كارلوفي فاري". بكلمات مقتضبة، تختزل المناسبة برمّتها، يُعلن ييري بارتوشكا، رئيس "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، رغبة المهرجان في تكريم الأسترالي جَفْري راش (6 يوليو/تموز 1951) وبينيتشيو دل تورو (بورتوريكو، 19 فبراير/شباط 1967)، بمنحهما "كرة كريستال" خاصة بكل واحد منهما، "للمساهمة الفنية المتميّزة (لهما) في السينما العالمية".
البيانات الصحافية، الصادرة عن إدارة المهرجان قبل أيام قليلة على إقامة دورته الـ56 (1 ـ 9 يوليو/تموز 2022)، تحدِّد باختصار فحوى المناسبة، مع سردٍ مُقتضب للسيرة المهنية لكلّ مُكرَّمٍ منهما، مع الإشارة إلى أنّ الاحتفاء بهما سيكون في حفلة الختام.
سيرة معروفة للعاملين في النقد والصحافة السينمائيين، وللمهتمّين بالسينما واشتغالاتها، وبعاملين/عاملات فيها، لأنّ لكلٍّ منهما حضوراً، يصعب اختزاله ببيان إعلامي، أو بمقالة صحافية. عناوين أفلامٍ لهما كافيةٌ لتبيان المدى العميق لاشتغالاتهما في كيفية منح كلّ شخصية من الشخصيات السينمائية حاجاتها، الجسدية والنفسية والروحية والفكرية والانفعالية، وإنْ تناقضت شخصيةٌ ما مع أخرى، في مسارٍ مهنيّ يزداد تألّقهما فيه، عاماً تلو آخر.
وإذ يصعب التغاضي عن وهنٍ يُصيب فيلماً أو أداء، بين حين وآخر، أو عن تراجعٍ في القيم الجمالية والفنية والدرامية لفيلمٍ/أداء أو لآخر، وهذا كلّه عاديّ في صناعةٍ تُنتج آلاف الأعمال سنوياً، رغم أنّ كلّ واحدٍ من المُكرَّمَين في "كارلوفي فاري" غير متورّط في اشتغالاتٍ متلاحقة؛ فإنّ راش ودل تورو يمتلكان، حالياً، مكانتين بارزتين في تلك الصناعة، وحضورين يكشفان مجدّداً ـ بفضل عروضٍ على شاشاتِ فضائياتٍ مختلفة، بين حينٍ وآخر ـ مزيداً من حيوية أدائهما، وجمالية تمثيلهما، وبراعة اشتغالاتهما، وإنْ تكن أفلامٌ عدّة لدل تورو تحديداً، في تلك العروض، منتمية إلى "أفلام التشويق ـ الأكشن". في أفلامٍ كهذه، يُبرز دل تورو كلّ ما لديه من حِرفية ومهنية وجاذبية، لتأكيد تلك المقولة الأساسية، التي تُفيد بأنّ التمثيل مهنة، تُصقَل بكيفية تقديم الممثل للشخصية، وبآليات تطوير أدائه، دوراً تلو آخر.
معلومات منشورة في صحفٍ ومجلات سينمائية غربية، في الفترة السابقة، تُشير إلى أنّ جَفْري راش يستعدّ لتصوير فيلمٍ جديدٍ له، بعنوان "حواجب مرتفعة" لأورِن موفرْمان، مأخوذ من كتاب "حواجب مرتفعة: أعوامي في منزل غروشو" (2012) لستيف سْتولِيَر: قصّة أعوام قليلة أخيرة في حياة أحد أهمّ الكوميديين الأميركيين وأبرزهم وأجملهم، غروشو ماركس (1890 ـ 1977)، بتأديته أدواراً مسرحية وتلفزيونية وسينمائية (إلى كونه كاتباً أيضاً). قصّة مكتوبة بقلم أحد أكثر المعجبين الشباب به، "المحظوظ للغاية بسبب تمكّنه من العمل لدى غروشو كسكرتير شخصي وأمين محفوظات، في منزل الممثل في بيفرلي هيلز"، كما في تعريفٍ للفيلم، المنتظر إطلاق عروضه التجارية عام 2023.
تأدية راش شخصية غروشو لن تكون أول تمثيل له لشخصيات حقيقية. اختباره هذا النوع من الأداء السينمائي عائدٌ إلى سنين مديدة، وانطلاق شعبيّته الدولية منبثقٌ من تأديّته شخصية الموسيقيّ ديفيد هالْفْغات، في "بريق (Shine)"، لسكوت هيكس (1996). لاحقاً، يؤدّي راش شخصيات حاضرة في السياسة والثقافة والفنون، بدءاً من السير فرنسيس والسِنْغهام، المعروف بكونه "المعلّم الجاسوس" لملكة إنكلترا، إليزابيث الأولى، قبل أنْ يتولى منصب سكرتير دولة، وذلك في فيلمي "إليزابيث" (1998) و"إليزابيث: العصر الذهبي" (2007)، لشيكار كابُر؛ ثم فيليب هانسْلو، مدير مسرح ووكيل أعمال فنانين، في زمن إليزابيث الأولى نفسها، في "شكسبير عاشقاً" (1998)، لجون مادن.
قبل ليون تروتسكي، في "فْريدا" (2002) لجولي تايمور، يرتدي جَفري راش زيّ الماركيز دو ساد، في Quills لفيليب كوفمان (2000)، ثمّ بيتر سيلرس في "حياة بيتر سيلرس وموته" (2004) لستيفن هوبكنس. ولعلّ دوره في "خطاب الملك" (2010) لتوم هوبر، يبقى الأجمل والأهمّ، في هذا المجال التمثيلي، بعد ديفيد هالْفْغات، إذْ يؤدّي شخصية ليونِل جورج لوغ، المتخصّص بتأهيل النُّطق المضطرب للمرء، مُساعداً الملك جورج السادس على تخطّي التأتأة المُصاب بها، عشية إلقائه خطاباً إذاعياً، في 3 سبتمبر/أيلول 1939، مُعلناً فيه دخول المملكة المتحدّة الحرب العالمية الثانية. أمّا تحويل جسده ونبرته وحركاته، والمدى الأبعد والأعمق لنظراته، إلى شخصية الفنان ألبرتو جاكوميتي، فيتلاءم إلى حدّ بعيد مع براعة التمثيل غير المسكون بهاجس التقليد والنسخ، بل بكيفية صُنع أداءٍ يتماهى بالشخصية الأصلية، من دون تخطّي حيوية الممثل وهواجسه التمثيلية والدرامية والجمالية؛ وذلك في "البورتريه النهائي" (2017)، لستانلي توتشي.
هذا ينطبق على أدوار أخرى له، كتروتسكي وسيلرس تحديداً. فجَفري راش متمكّن من إزالة الحدّ الفاصل بين التمثيل والتقليد، لامتلاكه تلك البراعة الأدائية في وضع الشخصية، الأصلية والمتخيّلة معاً، في إطارها الطبيعي، مُحرّراً إياها من جمود تاريخي يُصيب الأصل، أو من اتّساع الخيال في ابتكارها، ليمنحها نتفاً أساسية وجوهرية من "فنّ التشخيص" الذي لديه، والتشخيص هنا يخرج من مفهوم التقليد/النسخ إلى نواة الفنّ وحيويته.
من جهته، يُصوِّر بينيتشيو دل تورو، حالياً، فيلماً جديداً بعنوان "زواحف"، لغرانت سينغر، مؤدّياً فيه دور محقِّق متشدّد في كيفية ممارسة وظيفته، في "نيوإنغلاند". يظهر تشدّده، والتزامه الصارم بما يرغب فيه ويسعى إليه، في تحقيقه في قضية، "يبدو أنْ لا شيء فيها واضحٌ، أو حقيقيّ"، لكنّها تعنيه كثيراً، لأنّها تكشف ارتباطها به، دافعةً إياه، شيئاً فشيئاً، إلى "تفكيك أوهامٍ في حياته الخاصة".
يختلف دل تورو عن جَفري راش في مسألة الشخصيات التاريخية. ففي مقابل أدوار عدّة للثاني، يكتفي الأول بشخصيتين اثنتين، تتناقض إحداهما مع الأخرى تماماً: الثائر الأممي إرنستو غيفارا، في "تشي"، بجزأيه "الأرجنتيني" و"حرب العصابات" (2008)، لستيفن سودربيرغ، وبابلو إسكوبار في "إسكوبار: الفردوس المفقود" (2014)، لأندريا دي سْتِفانو. رغم التناقض الواضح بين الشخصيتين، يُؤكّد دل تورو، مجدّداً، معنى أنْ يكون المرء ممثلاً، ومعنى أنْ يُحوِّل الممثل طاقته وأدواته واشتغالاته إلى كائنٍ سينمائيّ، يتطلّب مهنية وحِرفية كبيرتين لإشاعة مصداقية أداء، بعيداً عن التقليد/النسخ.