بالخيال الجامح والفانتازيا الساحرة، يُعاكس المخرجان نيكولاس بيريدا (1982) وأرتيميو نارو (1976)، في فيلميهما "فاونا" و"كولوزيو" المُنتَجين عام 2020، تنميطاً شائعاً في السينما عن المكسيكي وبلده، فيذهبان عكسه، إلى مديات بعيدة في التجريب والابتكار، من دون التخلّي عن المعاينة الحصيفة لواقع تتشابك فيه الأزمات الفردية بتلك السياسية والاجتماعية، وتتفاقم بلا حلّ. على الأقلّ، هذا ما يقوله الفيلمان، من دون حاجة إلى تكرار أنساق أسلوبية مستهلكة.
نيكولاس بيريدا، الأغزر إنتاجاً بين مُجايليه من المُخرجين المكسيكيين المعاصرين، يتناول مشكلة المخدرات (فاونا)، بينما يُعيد نارو عرض المشهد السياسي المعطوب، عبر استعارة حكاية اغتيال المرشّح الرئاسي لويس دونالدو كولوزيو عام 1994 (كولوزيو). يختلف إيقاع أحدهما عن الآخر إلى حدّ التناقض. "فاونا" يكاد يكون صامتاً؛ فكعادته، يضع بيريدا الإنسان/ البطل في المركز، مبقياً التفاصيل الباقية هامشية، ولا يتردّد في منح أبطاله أكثر من دور، يُداخل بينها في المشهد الواحد. على النقيض، يفيض "كولوزيو" حركة وديناميكية تتجاوبان مع فوضى حواس تجتاح أبطاله الغارقين في عوالم فانتازية بتأثير المخدّرات والكحول، يُعبّر عنها مشهد طويل (10 دقائق تقريباً)، يُنسَج من صُوَر مبعثرة، ورسوم متحرّكة، وموسيقى صاخبة، مصحوبة بتوليف حادّ التقطيع.
لا جنس ولا عنف متفلّتاً في الفيلمين. في هذا التجنّب مُعاندة للتنميط المكسيكي. في "فاونا"، العنف داخلي نفسي يؤلم الخاسرين من التورّط في عالم الجريمة والمخدرات. في منجز نارو، الخراب سياسي، يُفسد ويُبدِّد آمال وأحلام الخلاص من فقر وانعتاق من موروث تاريخي، أعاد دائماً تحالفاً بين مستبدين وجنرالات. السخرية المُرّة التي تلف سرده تُسَفِّه العنف الطفيف الذي فيه. حبكته مبنيَّة على واقعة حقيقية، لكنّها تأخذ منحى بعيداً عن المتوقّع. 3 أشخاص (دييغو كالفا ومانولو كاسو وأورلاندو موغويل) يجدون أنفسهم فجأة في وضع يسمح لهم بأنْ يكونوا أبطالاً شعبيين، إذا نجحوا في إفشال عملية اغتيال المرشّح الرئاسي، رئيس الحزب الثوري الدستوري في مدينة "تيخوانا". فكرة الإنقاذ نابعةٌ من رأس دوّخته المخدرات، إذْ تَخيَّل أحدهم أنّه سمع في نشرة الأخبار نبأ اغتيال الزعيم السياسي خلال حملته الانتخابية. المدّة الواقعة بين الزمنين، المتخيّل والحقيقي، 3 أيام، عليهم خلالها إنقاذه وإنقاذ المكسيك من عودة ثانية لحكم قمعيّ. في النصّين، سخرية من هوس المكسيكي بالبطولة، فهو يمجّدها في صحوه ومنامه، ولا يهمّه مكنونها.
على فكرة أوهام البطولة، يؤسّس نيكولاس بيريدا حكاية "فاونا"، مُقترحاً مسرحتها بأسلوب بريشتي يُلغي احتمالات التماهي مع الأبطال، ويُفكّك الأبعاد المكانية التقليدية: تزور الشابة لويزا (لويزا باردو أورياس، التي تؤدّي دور فاونا أيضاً)، برفقة صديقها الممثّل الهاوِي باكو (فرانسيسكو باريرو) منزل عائلتها، الواقع في فضاءٍ شبحيّ توغل الكاميرا في تغريبه (تصوير ماريل باكويرو)، لكنّ والدها غير مهتم بأيّ تفصيل يخصّهما، فهو كان مأخوذاً بفكرة أنّ الشاب أدّى يوماً دوراً صغيراً في عمل مسرحي يظهر فيه وهو يخاطب تاجر مخدّرات مشهوراً. يطلب منه الأب تكرار الجمل القليلة تلك، ليعيدها من بعده مُنتشياً، كأنّها ترنيمة حظّ، أو كأنّه يُحقّق بها حلمه بالوصال مع بطله الشعبي، وابنه أحد ضحاياه.
عبر ذلك التلخيص المؤلم لتشابك مخيال شعبي مأزوم وباحثٍ عن بطل، يدخل "فاونا" (إنتاج مكسيكي كندي مشترك) إلى عالم الابن غابينو (أداء رائع للممثل لازارو غابينو رودريغز)، المتورّط في أفعالٍ لم تعد نافرة للغير، رغم بشاعتها. يُعيد سرد قصّته من خلال كرّاس صغير يحمله معه دائماً، ويقرأ منه صفحات بين حينٍ وآخر، ثم يتركه. يحكي الكرّاس أسباب عودته، وتعيد المَشاهد السينمائية المُمسرحة علاقته بالشابة الغامضة فاونا، وتوريطها له في عمليات توزيع مخدرات. فشله في الحصول على مبتغاه منها جعله كائناً مستلباً، وقابلاً للتطويع. كلّ شخصيات "فاونا"، كما أبطال "كولوزيو"، هامشيون يبحثون عن خلاصٍ فردي، لم يُعِنْهم على تحقيقه حتى المخيال السينمائي، ما يشجّع على البحث في أسباب خيباتهم، وفي اختلال تكوينهم الثقافي والمجتمعي.
لم يعد مُجدياً، بالنسبة إلى صانعيها، إحالة الانكسار الحاصل على العام الموضوعي فحسب، فهناك حاجة إلى توريط المتفرّج لإيجاد تفسير لسلوكها، وفهم أسباب تمزّقها ومدى تشابهها، إلى درجة يُمكن السينمائي معها، بسهولة، خلق عيّنات مطابقة لها في إطار الحكاية الواحدة، ليصنع منها مجتمعاً متجانساً. أيّ هشاشة وأيّ ضعف ذلك الذي وصل إليهما المكسيكيّ وبلده، وبمقارنتها معه، تبدو السخرية من العنف المكسيكي المتفلّت عند أليخاندرو غونزاليس إيناريتّو عاجزة عن التمويه عليه. هناك انحطاط وقلة ضمير يغذّيانه، من غير إحساسٍ بندمٍ أو خجل.
هذه مقاربة موجعة في فيلمين يسبحان في الزمن اللاواقعي، ويوغلان عميقاً في واقع بلد، لا وجود لقانون يفرض على سينمائييه تقديمه بأنساق سردية بصرية معتادة. المرجعيات السينمائية العريقة تمهّد الطريق لخوض مغامرات التنويع، ويبقى على السينمائيّ اختيار ما تنساب رؤيته وأسلوب معالجته. مقاربة "فاونا" و"كولوزيو" تُجسّد، بدقّة، معنى أن يكون السينمائيّ مُغامراً تجديدياً.