"غرفة بلا منظر": سردية جديدة للخادمات

29 أكتوبر 2021
عاملات إثيوبيات في بيروت (2007): وقائع العيش في الجحيم (جوزف برّاك/ فرانس برس)
+ الخط -

 

كلّ فيلمٍ، يتناول يوميات عاملات أجنبيات في المنازل اللبنانية، يُشكِّل إدانة ضمنية لنفوسٍ ومسالك ونظامٍ، وإنْ ينفضّ المخرج/ المخرجة عن فعل الإدانة. الواقع قاسٍ. المحاولات الوثائقية، قليلة العدد قياساً إلى الواقع واضطراباته وخلله، تبغي معاينة مباشرة، يبلغها المخرج/ المخرجة بأساليب بصرية وثقافية وجمالية وفنية وتوثيقية مختلفة، رغم أنّ المشترك بينها واحدٌ: لقاءات مع خادمات وسيدات وأصحاب مكاتب وناشطين/ ناشطات ومحامين/ محاميات.

"غرفة بلا منظر" (2021، 73 دقيقة)، للإسبانية روسر كُوريّا، يُخفي وجوه المشاركين والمشاركات فيه، باستثناء خادمات يتحدّثن، بمرارة وقهرٍ وتحدٍّ خفرٍ للمهانة، عن بؤسٍ يُقيمون فيه جرّاء مهنةٍ، يسعين إليها من أجل مالٍ، يريده بعضهنّ لإتمام دراسة جامعية، وبعضهنّ الآخر لإعانة أهلٍ وعائلات. كلّ كلامٍ يقوله معنيٌّ بملف الخادمات الأجنبيات يُسمَع من دون ظهور وجه قائله. سيدات قليلات يظهرن في مشهدٍ واحد، يقلن فيه شيئاً من نظرةٍ أو تعاملٍ أو تواصلٍ مع خادماتٍ، وإحداهنّ تُفضِّل أنْ تأتي إليها الخادمة مرّة واحدة في الأسبوع. هناك صاحب مكتب للخادمات يتصل بسيدة من أجل خادمة، وهناك لقطات لخادمات أثناء عملهنّ المنزلي.

بعض الخادمات يسرد وقائع، وبعض آخر يعكس أحوالهنّ جميعاً في جحيمٍ، تقول سيدات إنّه غير صحيح، فربّات البيوت وعائلاتهنّ يعانين، هنّ أيضاً، بسبب الخادمات، إذْ يتعرّض أهل المنزل لسرقةٍ منهنّ، ولاضطهاد أطفالهنّ، ولوسخٍ في جوانب مختلفة في الغرف (كما تقول ربّات بيوت عديدات).

نقاش كهذا يمتدّ في مفاصل الفيلم وسياقه. ربّات البيوت يدافعن عن أنفسهنّ إزاء خادمات يأتين من دول أفريقية وآسيوية للعمل. هؤلاء الخادمات يصلن إلى عالمٍ غير متوقّع، ويعشن حياةً لا أحد منهنّ يريدها. نظام الكفالة، الذي يُعتَبر أحد أسوأ أشكال العبودية، "ضمانة لحقوق العامل وامتيازاته على الأراضي اللبنانية"، كما يقول أحدهم (لا وجه له ولا اسم، فالأسماء تُذكر في نهاية الوثائقي)، بينما المحامي نزار صاغية يُشدِّد على أنّ هذا النظام نفسه "لا يسمح بالاستغلال فقط، بل بالإفلات من العقاب أيضاً". الاستناد إلى القانون يُبرِّر، بالنسبة إلى أصحاب مكاتب الخادمات، تصرّفاتٍ، إذْ يقولون بحقوق للخادمات، يتبيّن لاحقاً أنّ عائلات قليلة تمنحها لهنّ، مع إشاراتٍ عدّة إلى غياب كلّ حماية ضرورية.

 

الأرشيف
التحديثات الحية

 

لا جديد في معطيات يُقدّمها "غرفة بلا منظر"، المُشارك في قسم الأفلام الوثائقية، في النسخة الـ8 (3 ـ 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021) لـ"أيام فلسطين السينمائية". الفيلم مشغول بأسلوب بصري سلس، يُقدِّم المعطيات تدريجياً، مُطعِّماً إياها بلحظات انفعالية: طالبة جامعية تكتشف، لأول مرة في حياتها، غرفاً صغيرة الحجم تُعرف بـ"غرفة الخادمة" (زيارة لها مع زملاء وزميلات وأستاذهم إلى منزل أثري، فيه طابق علوي مخصّصة غرفه الصغيرة ذات السقف المنخفض للخادمات)، فتنتبه أكثر فأكثر إلى حالةٍ متكاملةٍ تعيشها الخادمات في لبنان؛ خادمات يتحدّثن عن أنفسهنّ في الجحيم اللبناني. عائلات لبنانية كثيرة لديها خادمات من جنسيات مختلفة، وهذا قبل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والحياتي، الحاصل في لبنان منذ أشهرٍ مديدة. قبل الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، هناك عائلات لديها خادمات، معظمهنّ من سورية، وبعضهنّ من مصر رغم أنّ الفيلم غير مُنتبهٍ إليهنّ.

تحليل ثقافي واجتماعي ونفسي للمسألة، مع قراءة في القانون وانتقادٍ، مبطّن ومباشر، لموادٍ فيه أو لكيفية تطبيقه، بالإضافة إلى كلامٍ عن هندسةٍ حديثةٍ، مرفق بتصاميم شقق كبيرة، ولقطات أبنية فخمة، للإشارة إلى كيفية تخصيص غرف للخادمات في المنازل الحديثة، معظمها صغير لا نوافذ فيها، ما يجعلها فعلياً "غرفاً بلا مناظر".

هناك انفعالات تُرافق حقائق، ومسائل مختلفة، كالضرب والاعتداء الجنسي أو إقامة علاقة جنسية بين أبٍ وخادمة، كما تروي إحداهنّ، قائلةً بصدمةٍ كبيرة تؤثّر فيها، دافعةً إياها إلى معاينة أعمق لحضور الخادمات في حياة أفراد العائلات، ولمعنى العلاقة الجنسية التي تقوم بين أب وخادمة، إذْ ترى الابنة الشابّة أنّ هناك استغلالاً وفوقية واعتداءً يتجاوز الجسد والغريزة.

لكنّ "غرفة بلا منظر" غير مهتمّ بتقديم صُورٍ ولقطات ورسومات عن أي عنفٍ، مباشر أو غير مباشر، باستثناء صوت امرأة يصرخ بخادمة من دون ظهورهما أمام الكاميرا. فروسر كُوريّا معنية أكثر بالخادمات، والكلام عنهنّ وعن أوضاعهنّ ونفسياتهنّ ونشاطاتهن (مسرح، غناء، تظاهرات من أجل حقوق مهدورة، وأخرى تضامنية مع زميلات يتعرّضن لعنفٍ أو موتٍ، إلخ) يتحوّل إلى متتاليات سردية عن بيئة واجتماعٍ وأفرادٍ يستفيدون من خللٍ وانعدام أي حسّ أخلاقي أو قانوني لتصرّفات مقيتة.

المساهمون