"عادات سائدة"... لهزيمة الوحش عليك مواجهته

05 فبراير 2022
فيلم يشرّح جمهور المنصات الاجتماعية والعاملين فيها (IMDb)
+ الخط -

تستعين المخرجة الأميركية جيا كوبولا، في المشهد الافتتاحي لفيلمها "عادات سائدة" Mainstream الصادر عام 2020، بحوارات مكتوبة ومؤطرة على طريقة السينما الأولى، أي غير الناطقة. إلهام السينما الأولى ليس مجرد وحي جيد للتعبير عن نزعة البدايات وبساطة الأشياء، قبل ثورة الرقميات ووسائل التواصل الاجتماعي.

فمن أجل تسخير مفارقة مؤثرة، بين زمنين، بين أجيالٍ، كان لا بد من التمهيد للحكاية بهذا الشكل. بطلة العمل "فرانكي" (مايا هوك) تعمل ساقيةً في أحد البارات المملّة، لكنها تملك هواية التصوير. تحاول جاهدة صنع فيديوهات ناجحة هرباً من واقع تعِس. "لينك" (أندرو غارفيلد) شريك "فرانكي" بالبطولة. شاب يعيش حياة بسيطة. لا يمارس مهنة محددة، لكن نستطيع فهم حياته على أنها متحررة من الهيمنة البرجوازية، فهو يعمل لراحته وسعادته الخاصة فقط. سيخوض البطلان مغامرةً متقلبة.

تبدأ بفيديو مصور، بعدسة هاتف "فرانكي" المحمول، يظهر عفوية وجنون "لينك" أمام المارة وهو يدعوهم إلى الالتفات للفن الحقيقي، وهذا سلوك يراد به تنويه متقدم إلى شخصية متحررة تبحث عن سبل حياة بسيطة أمام واقع منجرف نحو السذاجة والسطحية. تندهش "فرانكي" بعدد المشاهدات التي حصل عليها هذا الفيديو على "يوتيوب". تريد التواصل مع "لينك" مجدداً، ليكون بطل موادها المصورة وشريكها، ولكننا سنعلم أن شخصية "لينك" الجذابة وتصرفاته الفوضوية محض إشارات تعكس لنا إنساناً يبحث عن التجرد درجةً تمنعه حتى من امتلاك هاتف محمول، ليس لأنه فقير كما تصوره الكاميرا، فهو ابن عائلة ثرية هجرها ليكون على سجيته؛ حاجته للتجرد طبعت روحه وعزلتها أمام فوضى الحداثة والمنصات الرقمية والشهرة.

سيقبل "لينك" دعوة "فرانكي" لصناعة محتوى ترفيهي، ليس رغبة بالشهرة، بل لغاية مقصودة تستطيع هذه الفضاءات توفير مناخ مناسب لها. غاية ستجرّ إليها عناوين أخرى، ربما تطلبت غرابةً وانحرافاً بالغين في الأداء، لتكوين صورة متكاملة تعرّي فجاجة نظام استهلاكي يحيط بزر "الإعجاب" (Like). عند دخول "لينك" إلى هذا النظام، فإن التزاماً أخلاقياً باللعبة لن يكفي لكبح جماحه ولجم أفكاره الشاذة. فهو إذ يدرك أن رمالاً متحركة سيغرق بها رفقة "فرانكي"، ولكن لتفكيك واقعٍ محيط مشوهٍ سبق أن دفعه إلى التجول عارياً في الشوارع، ممتلئاً بحرية الذات الحقيقية ومروجاً لها في وجه أناقةٍ رقمية مبتذلة تعكس شكل صناعة بصرية مزيفة يسعى لها صيادو الشهرة.

وإن كان مقطعاً مصوراً لرجل عارٍ في الشوارع قد حقق نجاحاً كبيراً، وفتح له آفاقاً جديدة للشهرة والنجاح برفقة زميلته، فإنما هو تناقضٌ مقصود. فكيف لشاب لم يعتد اقتناء هاتف جوال الانخراط في أمرٍ يحاربه؟ لكن، باعتبار "الغاية تبرر الوسيلة"، فإن كل تصرف من قبله كان نابعاً من ازدراءٍ ومقتٍ كبيرين تجاه المشاهدين والمتابعين المنعزلين في عوالمهم الخاصة. المنهمكون في البحث عن الشهرة والاهتمام. المهووسون بكيانات تقنية وإعلامية سيستغلها البطل ليحارب من خلالها، لتفكيك الدور الذي تلعبه القوة والأيديولوجيا في صياغة الخطاب والمعتقد وغسل الأدمغة. وهذا كان جلياً في أولى خطواته بعد نجاح الفيديو الأول له ولـ"فرانكي"، عندما دعا المتابعين إلى الاستغناء عن هواتفهم، وتجاهل الإنترنت، خلال تجمعٍ جرى في إحدى المقابر، والاستعاضة عنها بالعناق وتبادل الأحاديث والتسلية. رمزية المقبرة جزء من هذه الدعوة للتعبير عن نشوة التواصل الطبيعي قبل تلاشيه وفنائه.

"لهزيمة الوحش... عليك الدخول إليه". هذه العبارة جاءت على لسان بطلنا، لتعكس لنا وجهة نظر العمل تجاه العالم الرقمي وعلاقة المستهلك به. هذا الوحش، وهو كناية عن وسائل التواصل الاجتماعي وحجم تأثيرها السلبي في الإنسان وحياته، سنراه في عين كاميرا كوبولا مرغوباً جماهيرياً.

لكن الذات الإنسانية المستنزفة في عالم الفضاء الرقمي ستحتاج إلى موجّه أو منظرٍ قبل أن يبتلعها كلها، فكان لا بد من اقتراح نقد مباشر في وجه حقيقة متزعزعة في الوعي الجمعي للمجتمعات تكشفها نوافذ وسائل التواصل. فحاجة الإنسان للتواصل أزلية، والاختزال والسرعة والربح في عصرنا هذا مفاتيح ممتازة لتوهين تلك الذات وتخديرها، لتصبح سلعة يتغذى منها جمهور عريض سيبرز من بينهم مؤثرون، هم أيضاً ضحايا التسليع الأكبر للمنظومات الرقمية والتقنية في سياقها الرأسمالي.

لذا، نحن أمام فيلمٍ يشرّح جمهور المنصات الاجتماعية والعاملين فيها. كذلك فإنه يعيد توصيف الكيان المجتمعي الافتراضي من منظور ساخر ولاذع، يقوده "لينك"، بأداء محترف ومتفجّر. ونعني بمتفجّر، حاجة شخصية متفانية في بحثها عن التلقائية والعفوية الإنسانية بأعلى تجلياتها. فالمواجهة هنا ليست ديالكتيكية فحسب، بل وجودية، والتعبير عنها سيكون أوسع من أن تحصر بين شخص ومجتمع بأكمله. هي حاجة تملك حيزاً من التناقض عند الآخرين، فهم، لحقيقتها، سيرفضونها تارة، ويتقبلونها تارة أخرى. بطلنا متجرد من المثاليات والمادة والترف، ومتنور نوعاً ما لدرجة لا تخلو من الإهمال، وإن كان يفتقر صراحةً إلى التكلّف الأخلاقي. وهذه صفات تستطيع أن تكون جاذبة لجمهور منقسم باختلاف أفكاره وآرائه.

بعد النجاح السريع للقناة، سيحصل كل من "لينك" و"فرانكي" على برنامجهما الخاص. سيحمل اسم "اللا استثنائي". خطوة متقدمة نحو صراعٍ وشيك، ستفتعل أزمة عاطفية وأخلاقية تمهد لها كوبولا بعد اعتمادها على تصوير لقطة مستعارة من فيلم "الجوكر" (2019) لتود فيليبس. فوقوف "لينك" أمام الستارة قبل أن يطل على الجمهور لن تختلف عن إطلالة واكين فينيكس وهو يتهيأ برقصته الغريبة تلك، قبل استضافته في برنامج "موراي فرانكلين" (روبرت دي نيرو). لقطة لها ميزات فارقة، تخفي استهزاءً قبل الولوج في أعماق التجربة، ثم تهيئة لإنتاج وصفة أيديولوجية تزعزع هرماً اجتماعياً متصلباً.

المساهمون