"سعاد" لآيتن أمين: حيوات لا يتكلم عنها أحد

24 ابريل 2022
"سعاد" هو التجربة الروائية الطويلة الثانية لآيتن أمين (فيسبوك)
+ الخط -

أعلنت الإدارة المنظمة لمهرجان هوليوود للفيلم العربي HAFF اختيارها الفيلم الروائي المصري "سعاد" لافتتاح الدورة الأولى الأربعاء المقبل، بعد مشاركته في مهرجاني كانّ وبرلين.

تأخذنا المخرجة المصرية آيتن أمين في أحدث أفلامها "سعاد" (2020) إلى الزقازيق (شرق دلتا النيل)، حيث كل شيء محدود ومكبّل، ولا نافذة لفتاة شابّة على الخارج سوى شاشة الهاتف المحمول. ولكن هل ما تصدّره هذه الشاشة هو العالم الحقيقي؟

"سعاد" (بسنت أحمد) في التاسعة عشرة، تشبه فتيات كثيرات نصادفهن كل يوم من دون أن يثرن انتباهنا. هذه الفتاة العادية تحلم بعيش حياة مختلفة. في كل حافلة تركبها، تختلق قصة مختلفة للراكبات المجاورات عن "أحمد" الذي تحتفظ بصورته في هاتفها، ما يجمع هذه القصص المتخيّلة هو الحرمان العاطفي والرغبة الدفينة في واقع مختلف. في المنزل، تنكمش "سعاد" ويخفت صوتها وسط جدران أضيق بكثير من ما ينسجه خيالها. بين الواجبات المنزلية، والعلاقة الفاترة مع والديها، والاستماع إلى حكايات صديقتيها الأكثر صخباً، تُطمس هويتها في عالم تبدو فيه تقريباً غير مرئية. في وحدتها التي تتاح لها نادراً، تحاول "سعاد" التحرر من سطوة الأهل والمحيط، وتتصرف على سجيّتها برفقة أختها الصغرى "رباب" (بسملة الغايش)، وتنخرط مع "أحمد" المقيم في الإسكندرية (حسين غانم) في قصة حب افتراضية تقتصر على الرسائل الصوتية ومكالمات الفيديو.

"أحمد"، صانع المحتوى وخريج كلية الهندسة، لا يقل ضياعاً عن "سعاد". وهو أيضاً تائه بين حياتين، واحدة مع خطيبته المنتمية إلى طبقة أعلى تلائم تطلعاته، وأخرى أكثر بساطة تمنحها له "سعاد"، لا يحتاج فيها الكثيرمن الأقنعة، ولكنّها لا تمنحه الرضا أيضاً.

"رباب" ذات العينين الفضوليتين هي نقيض شخصية "سعاد". وعلى الرغم من أنّ كلتيهما صورة للأنثى المهمشة في المجتمعات الذكورية، فإن طريقة تعاطيهما مع الواقع مختلفة. "رباب" أكثر جرأة وصلابة، تعرف إمكاناتها جيداً، ولا تملك توقعات خيالية. تفضّل مواجهة الواقع على رؤية كل شيء عن بعد.

تعيش "سعاد" من خلال علاقتها مع "أحمد" حياة موازية، تمنحها متنفساً لرغباتها المكبوتة، ومنفذاً للتحرر من القيود الدينية والاجتماعية المفروضة عليها. لكن مع الوقت تصبح هذه الحياة خانقة، فانتظارها لرسالة قد لا تأتي، والرعب الذي ينتابها عقب إرسالها صوراً حميمية له، يفاقم مشاعر الخوف والذنب، ويدفعها إلى عزلة أكبر من تلك التي أرادت الهروب منها، لنكتشف مع تطورالحكاية أنّ هذه الحرية المنشودة لا تقل زيفاً عن العالم الافتراضي الذي أتت منه، وأنّ القيود التي هربت منها "سعاد" لم تختف بل اختلف شكلها. فالسلطة الذكورية ظلّت تحاصرها، والحلم الرومانسي الذي أرادت عيشه مع "أحمد" تحول إلى سجن من نوع آخر.

بحميمية، تشبه عملها التلفزيوني الوحيد "سابع جار" الذي أنجزته بمشاركة نادين خان وهبة يسري، تلتصق كاميرا المخرجة بالشخصيات، وتبرز ضيق المساحات المتاحة لها، مما يمنحنا شعوراً بالتلصص على حيوات لا يتكلم عنها أحد، وراء الأبواب المغلقة. ولكن، المجتمع هو بطل الفيلم. كل الاضطرابات والآلام التي تعاني منها الشخصيات هي نتيجة إرث اجتماعي مرهق ورغبات مكبوتة، تحت أقنعة مقبولة اجتماعياً.

أبطال الفيلم يقفون لأول مرة أمام الكاميرا، اختارتهم آيتن من بين أعداد هائلة من فتيات لم يختبرن التمثيل مسبقاً، رغبةً منها في الحصول على أداء فطري يتداخل فيه مخزونهن الخاص مع أحاسيسهن المتولدة عن الدور الذي يؤدينه، مما يشعرنا لوهلة بأننا أمام مزيج من المشاهد الروائية والتسجيلية.

في "سعاد"، المكان عنصر حكائي هام في القصة. تخرج الكاميرا إلى الشارع، ترينا حارات الزقازيق وأسواقها الشعبية ومبانيها العشوائية التي تجعل الأفق أضيق على "سعاد" حتى عندما تخرج إلى الشرفة. في مقابل شوارع أوسع وعالم أرحب نوعاً ما في الإسكندرية. كذلك تنقل كاميرا أمين نمط الحياة في البيئات المحافظة والعلاقات الاجتماعية القائمة بين أفرادها. وبواقعية شديدة، تكشف لنا كيف تُربّى الفتيات، وكيف تُحصر أحلامهن في حياة مستنسخة عن حياة أمهاتهن، مع مقاربة لمفاهيم العار والشرف والعذرية التي تعد أهم من حياة الفتاة نفسها. ولكنّ المخرجة تبقى على مسافة محايدة من هذا كله، لتترك لنا حرية اختيار زاوية الرؤية.

آيتن أمين واحدة من أهم المخرجات المصريّات اليوم. "سعاد" هو التجربة الروائية الطويلة الثانية لها بعد فيلمها الأول "فيلا 69" (2013) الحاصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة بالعالم العربي في "مهرجان أبوظبي السينمائي". بدأت ابنة الإسكندرية رحلتها السينمائية عقب تخرجها من الجامعة الأميركية في القاهرة بفيلم قصير "راجلها" (2006) الذي عرض في مهرجانات دولية عدة. عام 2011 اشتركت مع المخرجين عمرو سلامة وتامر عزت في الفيلم الوثائقي "التحرير2011: الطيب والشرس والسياسي"، حمل الجزء الخاص بها عنوان "الشرس"، إذْ قدمت فيه رؤيتها لما حدث في ميدان التحرير أثناء ثورة يناير. حاز الفيلم جائزة أفضل فيلم في "مهرجان أوسلو السينمائي الدولي" في النرويج.

"سعاد" الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كانّ السينمائي الدولي (2020)، وعرض في الدورة الـ71 لمهرجان برلين السينمائي الدولي، يتعاطى برقّة مع مجتمع قاسٍ يطمس هوية أفراده، ويترك أسئلة عالقة من دون إجابات، لكنّه يفتح باباً لإعادة النظر في حكايات لا تتطرق إليها السينما كثيراً.

المساهمون