مع جِنّ يسرح ويمرح في قرية كرديّة جبليّة، مُثيراً الرهبة والرعب في نفوس الأهالي، أكثر مما يثيرهما في المتفرّجين، اعتُبر "زالاوا" فيلماً من نوع جديد في السينما الإيرانية. لكنّ أهميته ليست في نوعه النادر في تلك السينما، كفيلم رعب، بل في تفرّد فكرته، وفي تطرّقه إلى التعقيدات النفسية المرتبطة بالخُرافة، والمعتقدات الشعبية، وأثرها في التفكير الجمعي، كما في تشابكها مع معتقدات علمية عقلانية لدى الذين يعلنون عدم اعتقادهم بها، ظاهرياً على الأقل.
إنْ كان الإخراج في "زالاوا" (2021)، للإيراني أرسلان أميري، درجةً أقلّ في التحكّم من الكتابة السينمائية (أميري وزوجته المخرجة آيدا بناهنده، وتهمينة بهرام)، تبقى له مع أهمية المضمون متانة أسس البناء الفيلمي، الذي تمكّن في البداية من خلق أجواء متصاعدة من التوتر، ومواجهة نابضة بالحيوية بين رقيب شرطة وأهل قرية، وبين العلم والمعتقد.
في الدقائق الأولى (93 د.)، ومع لقطات افتتاحية ضُبطت عناصرها، من إيقاع وزوايا تصويرية (محمد رسولي) وشخصيات وأداء، خلق "زالاوا" أجواء إثارة وتشويق. يتابع أهل القرية الهلعون، وهم في حالة انفعالية شديدة، شابّةً في تحركاتها الغريبة، التي تؤدي بها إلى السقوط من أعلى الجبل. يُصرّون على أنّها مسكونة بالجنّ، ومسعود (نويد بور فرج)، الرقيب الشاب الذي يحقّق في هذا الادعاء، يسخر من مزاعمهم. ونظراً إلى أسلوبهم الخطر في التعامل مع الذين يعتقدون أنهم ممسوسون (إطلاق نار، طعن في الساق)، يصادر منهم أسلحتهم، درءاً لوقوع حادثة جديدة.
المشكلة لم تنتهِ مع موت الشابة، وأهل القرية استدعوا طاردَ جنّ شرير (بوريا رحيمي سام) لمساعدتهم وتخليصهم من جنّ آخر، أو ربما الجنّ نفسه الذي تلبّس بيتاً واحتله. بعد طقوس وحركات، يخرج طارد الجنّ من المنزل المسكون، حاملاً جرّة زجاجية في يده، حصر فيها الجنّي إلى الأبد، إلاّ إذا سمح له أحدٌ بالخروج. وهذا، طبعاً، لا يجرؤ أحدٌ على فعله.
يقف مسعود مشدوهاً أمام ما يشاهد، ويتعامل مع القضية بأسلوبٍ يُغضب الناس. كأنّ الحدث يتجاوزه، مع هذه الهستيريا الجماعية، التي يرى فيها غرابة لا يتحمّلها فكره العلماني. يعتقل طارد الجنّ بتهمة الاحتيال، ما يُصعِّد خوف القرويين وغضبهم.
من تطوّر الأحداث، التي يُحرّكها الرعب في الأهالي، ووجهات النظر المتعارضة بحدّة، التي تقود إلى الهلاك، يبدو فشل أسلوب مسعود في التعاطي مع القرويين كأنّه إيحاء بأنّ طريقته لا تنفع، وأنّ عليه العمل معهم لإقناعهم بتغيير مفاهيمهم عن القضية، لا مواجهتهم بهذا العناد. فهو انخرط، مع طبيبة القرية، في الأمر، بشكل أخطر، ليجدا نفسيهما مُحاصَرَين من القرويين في المنزل المسكون، وهؤلاء باتوا على ثقة بأنّهما، الآن، مسكونان بالجنّ.
كلّ ذلك يتمّ بإيقاع سريع ومثير. لكنّ الظواهر الخارقة للطبيعة ـ كأنْ تتحرّك الجرّة التي فيها الجنّي، أو كأنْ تحصل قرقعة غير مبرّرة، أو كأنْ تحلّ عتمة مفاجئة، وهذه كلّها أدوات بصرية وسمعية تُرافق دائماً فيلمَ رعب ـ ليست الأكثر إثارة، بل التأثّر والشكوك التي تتلبّس رقيبَ شرطة لا يؤمن بهذه الخرافات، كما يصفها. رقيبٌ يتردّد أمام رغبته في فتح الجرّة، بل كسرها، رغم أنّه لا يؤمن بما فيها. مواقف، وظّفها أرسلان أميري بدراية، لتلوّح بهذا القلق المستتر الذي يعتمل في نفسٍ غير مؤمنة تجاه قوى خارقة.
لكنّ المسيرة الأولية للفيلم، والمواجهة الأولى ـ المُنفَّذة بدقة وحرفية ـ بين الرقيب والقرويين، وبينه وبين طارد الأرواح الشريرة، التي تدوم إلى منتصف "زالاوا" تقريباً، لم تستمرّ. بدا كأنّ مشاعر الرهبة والخوف، المتأتية من فيلم رعب، فُرضَت فرضاً، ولم يتمّ الإحساس بها بشكلٍ طبيعي، ولم تنجح في الإقناع، وطغى شيءٌ من مبالغةٍ في انفعالات وأداء، مع تكرار بعض حوادث وايحاءات مبهمة، كفتح أبوابٍ وتسلّلات ليلية وخفوت إيقاع، من دون أنْ يُصاحب هذا بديلٌ مُقنع يثير الاهتمام. هذا كلّه ساهم في فكّ الارتباط بالفيلم.
اختار أرسلان أميري (1975)، لفيلمه الروائي الأول هذا، أنْ يكون زمنُ أحداثه عصرَ الشاه، ربما لإضافة قِدَم وبُعدٍ تاريخي على أحداثٍ تناسب الزمن الماضي أكثر، وترتبط بمعتقداته أكثر. أو ربما لإنقاذه من مساءلات رقابية في إيران، أو لكون مصدر السيناريو والد المخرج وذكرياته عن أشياء سمعها من أفراد العائلة، ورآها معهم. فأحد أجداده الأكراد ادّعى أنّه استعبد جنّياً، ووالده يفتخر بهذا، والعائلة كلّها تعتقد به. أراد أميري أنْ يفهم كيف بدا لهم ذلك الاعتقاد حقيقياً. اختار عام 1978 زمناً للحكاية، واخترع قرية كردية صغيرة، معزولة في أعالي الجبال، أسماها زالاوا (القرية البيضاء)، مُبتكراً لها تاريخاً، سرده في الفيلم، كقريةٍ أسّستها، منذ قرن، عصابةٌ من الغجر تسافر من الشرق إلى الغرب. سكانها الآن (زمن الفيلم) مجموعة غريبة، بشرة أفرادها مُرقّطة، يمشون في نومهم. أضاف لهم خاصيّة تمتّعهم بمستويات عالية من الأدرينالين، تأتي من خوفهم من الجنّ والخرافات غير العقلانية.
استغرق العمل على فكرة "زالاوا" 10 أعوام، ثم صوّره أميري في 49 يوماً، في قرية قريبة من "سنندج"، مع ممثلين محترفين وغير محترفين، كما قال في لقاءٍ مع الجمهور، بعد عرضه في ختام الدورة الـ9 (22 ـ 28 يونيو/حزيران 2022) لـ"مهرجان سينما/سينمات إيران" في باريس. الفيلم نفسه فاز بجائزة "الاتحاد الدولي للنقّاد (فيبريسي)"، في الدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، وبـ4 جوائز "سيمورغ (العنقاء البلورية)" في الدورة الـ39 (1 ـ 11 فبراير/شباط 2021) لـ"مهرجان فجر الوطني" (طهران)، في فئات أفضل إخراج وأفضل سيناريو وأفضل تصوير لمحمد رسولي وأفضل ممثل ثانٍ لبوريا رحيمي سام.