"رقم هاتف قديم": مُثيرٌ للاهتمام باشتغالاته وجمالياته وسرديّاته

26 اغسطس 2022
يعقوب الفرحان في "رقم هاتف قديم": ارتباكات وأشياء معلّقة (الملف الصحافي)
+ الخط -

ينطلق المخرج السعودي علي سعيد، في فيلمه الروائي القصير "رقم هاتف قديم" (2022، 23 دقيقة)، إلى جوهر السينما ومرتكزاتها، بطرحه أسئلة وجودية، تحفر في ذات الفرد، عبر الشخصية الرئيسية حامد (يعقوب الفرحان)، الرجل المأزوم، الغارق في أحزانه، والمُحاصَر بأقفال الماضي وجبروته، والمشوّش والمتردّد، الذي يأبى أنْ يصل بخطواته إلى نهاياتها. في الوقت نفسه، لم ينشغل بالبحث عن أجوبةٍ لها، أو شرحها. تركها مُعلّقة، ليحسّ بها المتلقّي، ويتدبّر فيها، ويؤوّلها كما يحلو له، انطلاقاً من مرجعيته وخبرته في الألم والوجع.

يُشرّع سعيد باب التأويل على مصراعيه، لتتعدّد نوافذ الفهم والتفسير. لذا، تجنّب اليقينيات والأجوبة الحاسمة، التي تُعطّل مدارك المُتلقّي، وتُحشره في زاوية ضيقة، فتقتل الجمالية وتبيدها باكراً، ويُصبح الفيلم القصير ثرثرةً، أو وصفة سريعة لإبراز حالة شعورية ما. هذا حاد عنه "رقم هاتف قديم"، الذي بدا حالة سينمائية، تتوفّر فيها مقوّمات صناعة الفيلم الروائي القصير: اقتصاد في الحوار، ولغة بصرية قوية، أقاما تواصلاً مع المتلقّي، الذي يكتشف معانيها الظاهرة والمخبّأة في زوايا الفيلم، المُظلمة والمُضيئة.

أعطى الغموض، الذي أحاط شخصية حامد، قيمة فكرية وفلسفية، خاصة أنّه بات يصعب على المُشاهد فهم الخلفيات الحقيقية التي أوصلته إلى تلك الحالة، ما أدخل المُشاهد في متاهة التلقّي المُتعدّد: يستمع إلى القرآن مرتدياً لباساً عادياً. في مشهد آخر، يستلّذ بالموسيقى، مرتدياً لباس الإحرام، حين أراد الذهاب إلى مكّة. تجمعه علاقة قوية بالأشياء القديمة: عندما سافر، وضع في حقيبته جهاز هاتف ثابت قديم؛ وفي سيارته، يستعمل أشرطة قديمة (كاسيتات) للاستماع إلى الأغاني. لكنْ، عند اتصاله بحبيبته، التي لا يعيش معها، يستعمل هاتفاً ذكياً، مع أنّع أخرج من دُرج سيارته ورقة مكتوباً عليها رقم الهاتف، لونها الورديّ يوحي بأنّ امرأة أعطته أياه. هكذا ينعكس العنوان (رقم هاتف قديم) في المتن، فحامد غير حاسم في قراراته، ولا يبلغ دائماً النهاية.

هذا يظهر في مشاهد عدّة: حين أخرج صورة من الخزانة، ونظر إليها، وفي الوقت نفسه تأمّل لباس الإحرام الذي بجانبها، كأنّ هناك من أوصاه بهذا، فقرّر السفر لتنفيذ الوصية. لكن، عند وصوله إلى منتصف الطريق، عاد إلى بيت الحبيبة، التي تردّد في الاتصال بها. هكذا يظهر عدم إتمامه الأشياء. وهذا ما قالته له هي شخصياً، في نقاش جمعهما معاً على درج العمارة. بمعنى أنّه يصل دائماً الى منتصف الأمور، ويعود، ولا يُكمل طريقه أبداً. إنّه المنطلق نفسه الذي حدث بينهما، إذْ جاء ليُسلّمها أشياء قديمة، صورة وشريط كاسيت في ظرفٍ، مع مال استلفه منها، ولم يكن هذا السبب الحقيقي، بل الشوق إليها. لكنّه لا يريد الاعتراف، ولم يشأ الدخول معها إلى البيت. يتجلّى هنا، أكثر، تردّده أمام الأشياء الفاصلة.

انعكس ذكاء علي سعيد في أجزاء عدّة من الفيلم: كان بوسعه جعل منزل المرأة، التي تواصل معها حامد، عادياً. لكنّه جعله في عمارة يتواجد الجيران فيها، مستعملاً هذا الفضاء لخلق توترٍ، وإشعار المتلقّي بإثارة وخوف من أنْ تكون المرأة عشيقة، تقف معه على الدرج. بالتالي، تكون النتيجة وخيمة عند اكتشاف الجيران لهذا، كما حدث عندما فتح أحدهم باب منزله، ثم أغلقه. كما أنّ هناك من يسكن في المنزل المقابل، الذي دخل العمارة مع ابنته الصغيرة.

 

 

يمكن أنْ يُفهم من هذا المشهد بأنّهما زوجان انفصل أحدهما عن الآخر من دون طلاق، بالإضافة إلى أنّهما منفتحان جداً. لهذا، لم تدخل المرأة، المرتدية ملابس النوم، إلى شقّتها بعد مرور الجار. كذلك حامد، لم ينزعج من هذا. مهَّد سعيد للمشهد بالزيارة الأولى لحامد، إذْ التقى أحد الجيران، وسأله عن وجهته، وسبب تواجده في العمارة. لكنّه لم يردّ، وخرج. هذا زرع توتّراً، وزاد من نسبة الإثارة وطرح الأسئلة.

بالإضافة إلى أنّه لا يمكن، إطلاقاً، الجزم بمعرفة سلوك حامد، بل يمكن التشكيك به، كونه يحب السهر والنساء. صاحب العمل قال له، عندما أعطاه مستحقاته قبل تركه الوظيفة: "لا تنفقها على السهر والنساء". رغم هذا، لا يُعرف مدى صدق هذه العبارة، لأنّ حامد بقي مشدوهاً، ولم يردّ عليه، مكتفياً برمي عقب السيجارة ودوسها بحذائه، في مشهدٍ يُمكن تفسيره بأكثر من معنى: تخلّيه عن هذا السلوك كتخلّيه عن عقب السيجارة؛ أو أنّ من يقترب من حياته الخاصة يدوسه؛ أو إثارة خوف صاحب العمل كي لا يتدخّل. تتعدّد جمالية المشهد، مع تعدّد القراءات والتكهنات، ما يعطي الفيلم قيمة فكرية، بهذه اللغة القوية والموحية.

استطاع الممثل السعودي يعقوب الفرحان التوحّد مع حامد، فيزيائياً ونفسياً، ناقلاً مشاعر القلق والخوف والترقّب والحزن، المحيطة بهذه الشخصية الافتراضية. انعكست الأحاسيس على تفاصيل الوجه، باللحية وشعر الرأس الكثيف، من نظرات الشرود والتمعّن في العدم، ونقلت المظاهر العميقة تلك الأحاسيس، وقوّت مواقف الأحداث وطبيعتها، وكانت رافداً مهمّاً لها، لانعكاس القلق العام، الموزّع في تفاصيل العمل وزواياه. من هنا، تظهر طبيعة علي سعيد، في حُسن اختيار الممثل، وإدارته بشكل جيّد، بعد أنْ جعله يتّحد مع الشخصية ويفهمها، حتّى صار حامد هو فعلياً يعقوب الفرحان، والعكس صحيح.

كما أحسن المخرج اختيار الفضاءات التي جرت فيها الأحداث، لامتلاكها روحاً وتفاصيل عميقة، كمكتب صاحب العمل القديم؛ وغرفة حامد، المليئة بتفاصيل من حياته وماضيه؛ والمشهد الخارجي، الذي نقل شكل العمارة التي تقيم فيها المرأة؛ وامتداد الصحراء في لحظة اقتراب الشمس من الغروب؛ والتركيز على جهاز الراديو القديم في السيارة، بأزراره الأنيقة وجيب الكاسيت. مشاهد تدغدغ وجدان المُشاهدين، خاصة ممن يقتربون من عمر حامد، فتتحوّل الأشياء إلى شاحنٍ قوي للعودة إلى الماضي، وعيش لحظات قديمة بمفعول رجعي.

فيلم "رقم هاتف قديم" من الأعمال السينمائية السعودية، التي تشي، بشكل واضح، بما ستكون عليه تلك السينما. إنّه نتاج آلية دعم من "مهرجان أفلام السعودية"، وفاز في مسابقة السيناريو غير المنفّذ، وافتتح النسخة الـ8 (2 ـ 9 يونيو/حزيران 2022) للمهرجان نفسه.

المساهمون