"راديوغراف عائلة" وبلدٍ: توثيقٌ يروي تاريخاً

09 يونيو 2021
"راديوغراف العائلة": صُوَر فوتوغرافية تروي سيرتي بلدٍ وعائلة (الملف الصحافي)
+ الخط -

إيران قبل الثورة. فتاة جميلة محافظة تستشير رجل دين، قبل ذهابها إلى سويسرا للالتحاق بزوجها غربيّ الهوى، الذي يتابع دراسته كطبيب أشعة. هناك، في منزل الزوجية، كانت القِبْلة أول ما بحثت عنه. ثمّ لازمها شعور بعدم الارتياح في ثقافة أخرى. لم ترد الاعتياد على هذا الـ"هناك"، فظلّت تحلم بطهران، وبالعودة إليها، دائماً.

في "راديوغراف عائلة" ـ المعروض في قسم "زاوية واسعة"، في الدورة الـ52 لـ"مهرجان رؤى الواقع ـ نيون (سويسرا)"، المُقامة واقعياً وافتراضياً بين 15 و25 أبريل/ نيسان 2021) ـ تسترجع الإيرانية فيروزه خسرواني حياة والديها، والتشتّت الذي عاشتْه على أرضين، وبين فكرين، مع أبٍ علماني وأمّ متديّنة. تفعل هذا بنظرة كلّها حنان وحنين: حنان تجاه أمّ لا تزال، وحنين نحو أبٍ لم يعدْ هنا. فيلمٌ وثائقي بنَفَسٍ روائي يعكس ـ من خلال حياة عائلة، وهذا الجذب والتجاذب بين طريقتين في التفكير والعيش ـ صورةً لإيران معاصرة، منذ عهد الشاه إلى الثورة الإسلامية.

صراع اتّضح منذ بداية الفيلم. هي من عائلة متديّنة ومحافظة، وهو ذو خلفية منفتحة وعلمانية، تميل إلى الثقافة الغربية. لكنّ الحبّ جمعهما. في سويسرا، رغب الزوج، طبيب الأشعة، في البقاء. أحلامه تركّزت على العيش في أوروبا على طريقتها، والتمتّع بمتاحفها وموسيقاها. هي تائهةٌ في محيطٍ مليءٍ بـ"الخطيئة"، وفي فضاءٍ، لا مكان ومكانة لها فيه. أقنعته بالعودة، فأيّ تربية لطفلتهما ستتوفّر في هذه الديار؟ عادا قليلاً بعد ولادتها، وقبل الثورة الإسلامية في إيران. فترة وجيزة، كانت كافية لتجد الأمّ نفسها في دروس خرّيج الـ"سوربون"، المفكّر علي شريعتي (مُنظّر الثورة الإسلامية). بات قدوتها. تتابع دروسه، وتصطحب الصغيرة معها. وحين تقول لزوجها إنّ فيروزه نامت في مُحاضرة شريعتي، يستحسن الأمر: "حسناً فعلتِ يا طفلتي". كانت دروس ما قبل الثورة، ثم الثورة نفسها، فرصة حقيقية للأمّ، للتعبير بصدق عن ميولها ومكنوناتها. دفعت الثورة بالمرأة، لا سيما المحافظة، إلى خارج البيت، "وأعطت معنىً لحياتها". انخرطت الأمّ تماماً في العمل الثوري، وتدرّبت على السلاح في الحرب العراقية ـ الإيرانية، وررفضت بنعومة اقتراح الزوج العودة إلى سويسرا من أجل الطفلة، فالبلد، برأيها، بحاجة إليهما. بدأ الانقسام.

بيّنت خسرواني بذكاء تحوّلات أمّها. بالأحرى هذه ليست تحوّلات، بل مُكوّن من مكوّنات شخصيّتها، سمحت الثورة بإظهاره أكثر. هذا رصده الفيلم من البداية، واستطاع إيصاله عبر مواقف وأمثلة، من دون حاجةٍ إلى ذكره مُباشرة. لجأت المخرجة، أحياناً، إلى تخيّل الحوار بين والديها، وتأديته تمثيلياً، في محطات مهمّة من تاريخهما، لتُبدي نوعية الصراع بينهما، وأسلوب كلّ واحد منهما في الاعتراض على الآخر، من دون مجابهة حقيقية، بل بفرضٍ ناعم من الأم، واستسلام يائس من الأب. بدت الأمّ ـ بصوتها الرقيق، وهدوئها الدائم، المُعبَّر عنه في الحوار التمثيلي ـ قوة ناعمة، تحاول التغيير بوداعة ومن دون صراخ. مثلاً، حين تحتجّ على الزوج بسبب وجود كحولٍ في البيت، تسأله بعتبٍ رقيق: "لِمَ لا تحترم معتقداتي؟".

 

 

تاهت الابنة بين صوت الثورة وموسيقى باخ، وانقسم المكان بينهما. تسلّلت الثورة إلى البيت، وانقلب كلّ شيء. زالت اللوحة العارية فوق السرير، واختفت الأقداح والخمرة. استقرّت سجّادتا صلاة في الصالون. شرعت الأمّ بتطهير الماضي. مزّقت كلّ صورة تظهر شعرها، أو ذراعاً عارية لها. مع صوت التمزيق، هناك فتاة صغيرة تحاول أن تُكمل، بالقلم الرصاص، صورة ناقصة لأمها. حلّت صُوَر جديدة، وأشرطة فيديو من نوع آخر، لا لحفلات راقصة ولقاءات نقاش مع أصدقاء العائلة، بل للأمّ التي تحجّبت، ولنشاطاتها الثورية.

للصورة الفوتوغرافية في "راديوغراف العائلة"، دور رئيسي، إذْ تقود السرد المتمحور حولها. صُوَر تكشف مسيرة حياة، ومن الحياة ينطلق السرد. في المَشاهد الأولى، حلّت الصورة في حفل الزواج مكان العريس الغائب. ثمّ توطّد دورها، أكانت صُورا مكتملة أو ممزّقة، لتكون أساس كلّ ما يُروى، والوسيلة الأهم من وسائل أخرى، استخدمتها فيروزه خسرواني للعودة إلى زمن مضى، وإلى تحوّلات مسّت العائلة، وعصفت بالمجتمع الإيراني.

في رصدها تحوّلات البيت، لجأت خسرواني إلى صوتٍ مُحمّلٍ بشجنٍ، يسرد أحداثاً، وإلى مكان مثقلٍ بالتغيّرات. صالون بيت العائلة صورة شعاعية تكشف البواطن. في مَشَاهد البداية، هناك أقداح وورق لعب على طاولة، وبيانو في الزاوية، ولوحة امرأة عارية فوق السرير للرسّام الإسباني فيلازكويز. شيئاً فشيئاً، يخلو المكان من هذا كلّه، وتبقى قطع أثاث قليلة، مُغطاة بشرشف أبيض، كميت، فالثورة تقشّف وزهد وبساطة عيش.

تغيب الصغيرة في الفيلم. يبدو التركيز أكثر على فكر الوالدين وسلوكهما، من دون تطرّق واضح لتأثير هذا الاختلاف عليها. يُترك للمُشاهد التخمين. تظهر خسرواني في سردها تعاطفاً واضحاً مع أبيها، لكنّها تبدو كأنّها في الوقت نفسه تتهيّب انتقاد أمها صراحة. تُظهرها دائماً ناعمة ومُحبّة، حتى في احتجاجاتها، وعند اعتراضها أحياناً على بعض رغبات بسيطة للأبّ، كالاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية. تتقرب من أمّها، وتقول إنّها طفلة كانت تحبّ همهماتها أثناء أدائها الصلاة، مع أنّها لم تكن تفهمها، لكنّها كانت تهبها إحساساً بالأمان والاطمئنان.

مرّ زمن. في يومٍ من الأيام، نام الأب، ولم يستفق. هل كان يحلم بماضيه السعيد؟ تتساءل فيروزه خسرواني، وتعرض صورة أخيرة تظهر فيها صغيرة تعانق أبيها، وصوتٌ يقول إنّ الزمن توقّف بفيروزه، التي هناك بين ذراعيه. كأنّها تقول إنّ التي ناولت أمّها القرآن، في المشهد الأخير، كانت واحدة أخرى.

المساهمون