مُخرج عُرِف بأنّه تلميذ لعباس كيارستمي، الذي التقاه في طهران حين جاءها إليها لدراسة السينما، وعمل مُساعداً له في 10 أعوام، جعلته يُدرك أنّ دراسة السينما "مضيعة للوقت". كيارستمي قال له إنّ تعلُّمَها يأتي من عمل أفلامٍ، فاقتنع مرتضى فرشباف (1986) بذلك، بعد مشاركته في أعمالٍ عدّة.
"ظلّ" المعلم تبدّى، باعترافه، في فيلميه الأولين: "صُبح"، أو "مشاجرة" بحسب العنوان الفرنسي (2011)، نال جوائز في مهرجانين دوليين، بوسان (كوريا) ودوفيل (فرنسا) للفيلم الآسيوي، في العام نفسه. زوجان من الصمّ البكم، وقريبهما أرشيا (10 أعوام)، الذي يلجأ إليهما بعد مُشاهدته شجاراً عنيفاً بين والديه، تبعه رحيلهما. في اليوم التالي، قرّرا مرافقته في البحث عن والديه المفقودين، وعبور جبال البلد ومدنه، للوصول إلى طهران، فتمنحهما الرحلة فرصة استعادة سنوات عيشهما معاً، وتصفية حسابات، أمام الصبي الصغير. فيلمُ رحلة طريق، تأخذ فيه السيارة والطرق الجبلية المتعرّجة والسهوب دورها، كما فعلت دائماً في أفلام كيارستمي.
في "ثنائي" (2016)، يكافح مُحارب (في الحرب الإيرانية العراقية)، مُتقاعد ومُصاب بالشلل جرّاء إصابات لحقت به، لإحلال السلام في العالم، بعد الهجوم على "المركز الدولي للتجارة" (11 سبتمبر/أيلول 2001).
أمّا فيلمه الثالث، "تومان" (2020)، المعروض في الدورة الـ9 لـ"مهرجان السينما الإيرانية" في باريس (22 ـ 28 يونيو/حزيران 2022)، فيعتبره ميلاده الحقيقي ومشروعه الشخصي، بعيداً عن تأثير كيارستمي، لأنّه أراد "أنْ يكون نفسه"، وأنْ يدخل في مغامرة تعبِّر عن رؤيته السينمائية الخاصة.
لعنوان الفيلم دلالة مزدوجة: إنّه اسم العملة القديمة لإيران، المستخدم شعبياً إلى اليوم أكثر من الريال؛ كما أنّه يوحي بكلمة "رجلين" بالإنكليزية، ولهذا مغزاه كما يظهر لاحقاً في الفيلم، الذي يتناول جيلاً شاباً لا يجد وسيلةً لعيش حياة عادية، في مرحلة انهيار اقتصادي للبلد. شبابٌ يحاولون إيجاد سبل سريعة لكسب المال، ويبحثون عن أفكار مجنونة، وعن تحايلٍ لتحقيق أحلامهم في الاستهلاك، بأقصر وقت. داود (مير سعيد مولويان، في أداءٍ مُدهش) وعزيز (مجتبى بيرزاده، اللافت للانتباه هو أيضاً) صديقان شابان، مهووسان بكرة القدم وسباق الخيل. يتابعان بشغف كلّ مباراة من مباريات الـ"فيفا" على شاشة تلفزيون ضخمة، ويحضران سباقات الفروسية، ويراهنان باستمرار، ويكسبان في كلّ مرة مبالغ كبيرة من المال.
هذه مهنة مربحة أكثر بكثير مما يجنيه بائعٌ في محل متواضع. يعملان مع أصدقاء مُتحمّسين بالقدر نفسه، يساعدونهما في البرمجة والحاسوب وتحقيق الحسابات الدقيقة للربح. داود قائد ذكي، مُتعصّب لهويته التركمانيّة، ولثقافته (من هنا المراهنة على الفروسية في منطقة التركمان في إيران). لا يتوانى عن استخدام العنف مع أيّ كان، حتى مع خطيبته وأصدقائه. يربح الكثير كلّ مرة، لكنّه، مع كلّ ربح، يخسر أشياء أخرى في الحياة، كالحبّ والصداقة.
الحبكة مُشتّتة للغاية، في سيناريو غنيّ ومُعقّد، كتبه فرشباف أيضاً، مُستخدماً الفصول الأربعة في بناء الفيلم، إذْ قَسمه إلى 4 أجزاء، كرّس نصف ساعةٍ لكلّ واحد منها (مدّة الفيلم 129 دقيقة)، من دون وضوح الغرض الحقيقي لهذا التقسيم، غير التعرّف على الشخصيات الأربع، التي تتغيّر أمزجتها وأحوالها وعلاقاتها بحسب الفصول. لكن، لم يكن مُمكناً متابعة كلّ هذه الجداول التي يُقدّمها الفيلم لعملية المُراهنة، بحيث بدت إضافتها، والإصرار عليها، شيئاً بلا جدوى، إذْ تبقى عملية الربح الدائم غامضة ومشوّشة، وتضيع في كمٍّ من المعلومات والصراعات والشجار والصراخ والثرثرة، جعلَت الإيقاعَ سريعاً جداً، ومُتخماً بحركةٍ للشخصيات لا تهدأ.
كلّ شيء يجري بسرعة فائقة، مُرفقاً بموسيقى تصويرية إلكترونية صاخبة (محمد رضا حيدري). لكنّ مرتضى فرشباف تمكّن، لحسن الحظّ، من رسم عملية الهبوط السريع والانهيارات الشخصية، ومعها التطوّر الذي يطرأ على الشخصيات في عملياتها المشبوهة وغير المشبوهة (لم يكن هذا واضحاً كفاية)، بعد الحصول على المال السريع، وهذا أفضل ما في الفيلم. كما أنّ المقامرة والرهان، لا سيما الرياضي، موضوعٌ جديد في السينما الإيرانية، بكل هذه التفاصيل، كتناوله قضية الطبقات ومحاولات الدخول في الطبقات الأعلى للحصول على ميزاتها.
بدت الشخصيات متقلّبة، يصعب اتّخاذ موقف تجاهها، لا سيما الشخصيتين الرئيسيتين. فداود يُثير التعاطف، حين يُبدي حناناً فائقاً تجاه صديق له أصيب في حادث فروسية، مُكّرساً له إمكانيات مادية ومعنوية؛ وفي المقابل، يُمارس عنفاً غير مُبرر تجاه خطيبته، مُفاجئاً في شدّته، لمجرّد أنّها أزعجته بكلامها وأسئلتها. أمّا عزيز، فيُبرّر فعلة صديقه بـ"لا بُدّ أنّكِ فعلتِ له شيئاً، حتى يفعل بكِ هكذا"، والسيناريو لا ينتقد داود أبداً، ولا يستنكر سلوكه.
هذا التضامن العميق بين الأصدقاء، إضافة إلى إشارات بصرية، يوحي بأنّ الصداقة ليست الرابط الوحيد بينهم، لا سيما بين داود وعزيز. هناك مَشاهد لا يمكن تفسيرها إلا كانجذابٍ جنسي واضح بينهما، استطاع فرشباف، بتحايلٍ مُدهش، تركه مُلتبساً. هذا أمر شديد التعقيد وجديد (نوعاً ما) في السينما الإيرانية، يجب إيجاد لغة بصرية إيحائية ذكية، ووسيلة عبر حركة الكاميرا والجسد للتمويه، بهدف التعبير عنه، والإخراج نجح في تحقيقه. وهذا يُثير تساؤلات عن إمكانية عرض "تومان" في طهران. يقول المخرج إنّه عُرض فعلياً، وعرف نجاحاً باهراً.
لعلّ العقوبة القاسية التي لحقت بمعظم الشخصيات، نتيجة مقامراتها وأسلوبها المغامر، سهّلت مروره. فـ"تومان" طرح معضلات أخلاقية، وأبدى عواقبها على الجميع.