تزخر خزانة الأفلام الأميركية بسيناريوهاتٍ تقتفي قصص إعمار الغرب الأميركي، وغزو مظاهر "الحضارة" لأرجائه الشاسعة، بفعل جاذبية المعادن الثمينة والمواد الأولية، التي تعجّ بها طبيعته وبواطن أراضيه، للمهاجرين الباحثين عن المال أو الاستقرار.
في "بقرة أولى"، سابع روائيّ طويل للأميركية كيلّي رايكار (1964)، تُسرد محكية من وجهة نظر أصيلة، عن فترة إعمار منطقة "أوريغون". وجه الأصالة يكمن، خاصة، في نسج الحبكة على منوال استعارة مجازية لنشأة المجتمع الرأسمالي، عبر وصفٍ دقيق لميكانيزمات تطوّر هذا المجتمع، انطلاقاً من وضعية محلّية شبه بدائية، وميكروكوزم صغير، يؤدّي ارتباطه بالعالم الخارجي، من خلال حدث دخيل على ثقافة المنطقة (استقدام بقرة عبر النهر لحصول رئيس شركة التصدير على حليب يمزج به الشاي)، إلى قَلْبِ توازنه الطبيعي نهائياً. كلّ ذلك في قالب قصّة، ذات بعد إنساني، عن الصداقة بين رجلين.
عام 1820، كان كوكي فيغويتز (جون ماغارو في أداء باهر، يؤكّد موهبته الكبيرة) طبّاخاً لمجموعة أفظاظ يصطادون الحيوانات لتصدير فروها إلى الخارج. تقوده الصدفة إلى التعرّف على كينغ لو (أوريون لي)، مُهاجر صيني في حالة فرار بعد ارتكابه جريمة قتل. هناك تباين كبير بين الشخصيتين: كوكي ساذج وهادئ ومنطوٍ على ذاته. لا تجربة له تُذكر. كينغ لو شخصية متفتّحة ومقبلة على الحياة، ويتمتّع بتجربة كبيرة بعد تنقّله حول العالم. بشكل فارق، يؤدّي هذا التباين إلى تجاذب بينهما، يتحوّل إلى صداقة متينة قوامها الانسجام بين حلم كوكي بفتح فندق أو مخبزة في سان فرانسيسكو، وطموح كبير لكينغ لو في جني الأموال بأي ثمن، قبل الهجرة هرباً من جريمته، والتحاقاً بالأغنياء.
يتعاون الصديقان على مشروعٍ مجنونٍ، يتمثّل بمخاطرة حَلْب بقرة رئيس الشركة، خفيةً، كلّ ليلة، للحصول على حليب يصنع كوكي بفضله بسكويتاً فريداً، يتهافت عليه المشترون لمذاقه المميّز، فيجنيان بذلك ربحاً يومياً لا بأس به.
تُصوّر المخرجة سيناريو مقتبساً من"نصف حياة"، رواية رفيقها في الإبداع (هذا تعاونهما الخامس) الكاتب جوناثان رايموند، بشكل تغلب عليه الكلاسيكية. لكنّها لا تتردّد، بين حين وآخر، في التركيز على التفاصيل (كيفية إشعال نار المدخنة، مراحل تحضير البسكويت وتزيينه)، وتبنّي جمالية خارج الإطار (التبئير على طفلٍ يقبع فوق طاولة الحانة، بدل تتبّع مشاجرة تحصل خارجها)، والبقاء مع الأشياء حين يتركها الأشخاص وراءهم (تأطير زوج أحذية قديمة لثوانٍ قبل القطع، ما يذكّر بلوحة فان غوغ المشهورة)، ما يمنح الفيلم طابعاً شاعرياً أخّاذاً، خصوصاً حين يلتصق إيقاعه بالطبيعة، بحيواناتها وأدغالها ومناظرها الآسرة.
تقتفي رايكار حساسية المونتاج (تضطلع به المخرجة بنفسها في أفلامها كلّها)، والتموقع داخل مدّة اللقطة بالتركيز على انسياب الزمن، كما تتدفّق مياه النهر وسط "أوريغون". من جهة ثانية، فإنّ الشكل المربّع للصورة (نسبة باعية 4:3) يعضد الاندماج مع دواخل الشخصيات بالدرجة نفسها التي يُركّز فيها على محيطها الطبيعي.
رغم تميّز "بقرة أولى" بطابعه الرجاليّ الصرف، وسط مُنجز مخرجته، المرتكز في غالبيته على قضايا وانشغالات نسوية في عمقها، فإنّ لازمة تدفّق المياه تحضر في أفلام سابقة لها، منذ "نهر العشب" (1994)، بالإضافة إلى ولعها بالشخصيات المنتمية إلى الطبقة العاملة، التي تعيش على قارعة المجتمع، حدّ مجازفتها بملامسة الحافّة سعياً إلى تحسين وضعها وبحثاً عن موطئ قدم في المجتمع. سبيلها إلى ذلك أجواء واقعية تحثّ على تأمّل قتامة العيش اليومي، في فترات فارقة من حياة الشخصيات، تعبّر عنه بوصف أفلامها بـ"قبسات من أشخاص عابرين"، بحكم تركيز الحبكة على فترات زمنية قصيرة نسبياً، تأثّراً بجماليات الواقعية الجديدة. هذا بالضبط مرجع نهايات أفلامها المفتوحة، لأنّنا "لا نعرف أين كانت الشخصيات قبل أن يتلقّفها سرد الفيلم، فقط نمضي أسبوعاً برفقتها ثمّ تمضي في طريقها"، كما تقول.
رغم الطابع المتوقّع، إلى حدّ ما، لأحداث وانقلابات درامية، يفكّك الحكي، بشكل مذهل، مرتكزات المجتمع الرأسمالي، من خلال تطوّرات حبكة مشروع الصديقين. يبدأ كلّ شيء حين يجمعهما حوار على طرف النهر. يُخمّن كوكي أنّ نجاح مشروع يتطلّب فكرة جيّدة، فيجيبه كينغ لي: "أو جريمة"، ما يحيل إلى طابع الخطيئة الملتصق بتاريخ الرأسمالية. خطيئة تتطوّر إلى انتهاكٍ لنواميس الطبيعة، يتمثّل في نتائج الصيد الاستنزافي الكارثيّ على التوازن البيولوجي للطبيعة، بينما يُظهر استمرار الثنائي في السعي إلى مزيد من الأرباح، رغم المؤشرات الواضحة التي تدلّ على قرب افتضاح أمرهما، إلى الجشع المتأصل في جينات الرأسمالية (رائعة جون هوستن، "كنوز سييرا مادري"، 1948)، فيؤدّي الربح إلى البحث عن مزيدٍ منه، وتنشأ حلقة جهنّمية تأكل رأس المال، وتقذف المستثمرين إلى حضن الهلاك.
الجواب الجاهز للصديقين ـ "الوصفة سرّية"، يقولان عندما يُسألان عن العنصر المُسبِّب للمذاق اللذيذ للبسكويت ـ يذكّر بحجج الشركات متعدّدة الجنسية لتسويق منتجاتها المنمّطة للأذواق والسلوكات. استعارة بليغة، تبلغ ذروتها في رمزية البقرة، وكيف يختزل حلبها ـ بشكل جشع جرياً وراء الربح ـ عيب الرأسمالية الخبيء، المسؤول عن تناقضاتها وتجاوزاتها، انطلاقاً من الفوارق الطبقية الصارخة، والانعكاسات الكارثية على البيئة، وطمس معالم الثقافات، بتشويه نمط عيش السكان الأصليين، وتناغمهم الأزلي مع الطبيعة.
يتجلّى المعطى الأخير بشكل فني يعصر القلب، في مشهد لا يخلو، للمفارقة، من طرافة. فيه، يستضيف مدير شركة التصدير (توبي جونز، وفياً لبراعته) أحد الوجهاء العسكريين في المنطقة، في حفلة شاي، بحضور عائلة أحد السكان الأصليين، المستفيدين من بيع خيرات "أوريغون"، والشريكين المُكلّفين بتحضير حلوى خاصّة للمناسبة، قوامها حليب سرقاه من بقرة مُضيفهما، الذي يتفاخر بها أمامهما، فيُحرجان في نهاية اللقاء. مشهد يستمدّ قوته من جمعه كلّ أطراف اللعبة الرأسمالية: المسؤول عن الاستغلال الذي يوزّع منافع العملية على باقي الأطراف، ويسحرهم في الوقت نفسه ببريق ما يستطيع المال شراءه؛ والعسكريّ الذي يحميه، والذي يظنّ أنّ "هناك ما يكفي من السناجب في المنطقة لتلبية حاجات السوق العالمية إلى الأبد"؛ والفقير المسحور ببريق الرأسمالية، الذي يعيد إنتاج السلوكات نفسها التي أدّت إلى تهميشه؛ والساكن الأصلي، الذي تدلّ مؤشرات لباسه وتصرّفاته على بوادر تخلّيه عن ثقافته، رغم الإصرار الرائع للمخرجة على إيراد كلامه باللغة الأصلية الجميلة، من دون ترجمة، ما يُعمّق الإحساس بفداحة الخسران لدى المُشاهد.
هناك أيضاً الحوار المهمّ، الذي يُركّز على مغريات الغنى، كاهتمام الطبقة البورجوازية الناشئة بآخر صرعات الموضة في باريس، في لمحة ذكيّة إلى ظاهرة رديفة للرأسمالية، تتجلّى في بزوغ شمس العولمة الحارقة للعالم بتوهّجها اليوم.
ينتمي "بقرة أولى" أيضاً إلى فئة "أفلام الأصدقاء" (بادّي موفيز)، مذكّراً بأفلام مَعلميّة، كـ"ثاندربولت ولايت فوت" (1974) لمايكل تشيمينو، خصوصاً أنّ إصرار الفيلم على إمكانية الصداقة بين أميركي وصيني يتقاطع مع الصّراع الكبير بين حكومتي أقوى اقتصادَين اليوم، حول النفوذ المالي والهيمنة على السلطة في العالم.
مرّة أخرى، تتجلّى قدرة السينما المغرقة في الإنسانية على الذهاب عكس مسار العالم الراهن، حين يفقد هذا الأخير بوصلته بفعل الأطماع الاقتصادية وهيمنة ثقافة الصدام. ولعل الصورة الأخيرة، التي يتكشّف فحواها باقترانها بمشهد البداية، تُعدّ من أفضل نهايات الأفلام في الأعوام الأخيرة، بفضل حمولتها الإنسانية العظيمة عن تآلف الثقافات، ونظراً إلى طرحها الفاضل حول أنّ الصداقة وحدها تستطيع ترويض سطوة الموت، واختراق جدار الزمن.