ظل نبأ موت الجاز يُتداول بكثرة بين المشتغلين بالموسيقى والمُنشغلين بها. أما القيمون على مهرجان جاز برلين Jazzest لهذه السنة، الذي ترعاه برلين للمهرجانات Berliner Festspiele، إذ استمر لأربعة أيام واختُتم الأحد الماضي، فقد آثروا الاستثمار في الكشف عن بوادر جديدة للحياة، داخل جنسٍ موسيقي يؤولُ نخبوياً كلاسيكياً، وتتهدده التقليدية والمدرسية. ذلك عن طريق رصد مظاهر الهجونة والبين - مناهجية، التي باتت تحدد ملامح المشاريع الفنية المُعاصرة، من حيث وسائل الإنتاج وأساليب الإخراج، لتأتي نُسخة هذا العام تحت عنوان "مشاهد من الآن".
آنٌ، صنعته في الواقع تبدلاتٌ تاريخية عاصفة، وبفاصلة زمنية بالغة الكثافة. حالٌ طارئة، كالوباء العالمي، تبدو كما لو أنها قد دفعت للتو بطرائق مبتكرة حيال كيفية تقديم المُنتج الموسيقي حياً إلى الجمهور. أخذت بدورها تُرسي ثقافة جديدة في تداول المُنتج الموسيقي، لها أن تدوم طويلاً وتترسّخ عميقاً، لتصير عُرفاً أصيلاً وطقساً عادياً، عساه أن يستمر بعد عودة الحياة إلى الحال الطبيعية.
لذا، لم يبدُ حضور فرق جاز تشارك من العاصمة المصرية القاهرة، ومدينة جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا أو ساو باولو بالبرازيل، عبر بثٍّ حي مُسقط على جدران قاعة في العاصمة الألمانية تغصّ بالمستمعين، فيما تخلو من العازفين، كما لو كان حلاً مؤقتاً تفرضه الظروف الراهنة المتعلقة بفيروس كورونا، بل شكل جديد تخلقه ذات الظروف، بقدر ما يُتيحه آخر ما وصلت إليه التكنولوجيا، من آنية فورية وجودة متناهية في نقل الصورة والصوت. هكذا، سيتمكّن طرفا المعادلة الأدائية، المبدع والمتلقي، من التفاعل والتداخل ضمن عروض تجري في نفس الوقت، وتبعد مسافة قارة أو قارتين.
إلا أن الأهم من بين التبدلات التي ترسم "مشاهد الآن"، رصداً لها في ضوء المتابعة العامة لعروض المهرجان، تبدو أكثر جوهرية؛ إذ إنها طرأت على التجربة الموسيقية بطبيعتها الكلية، أي شكلاً ومضموناً. حتى أنه بات بالإمكان القول إن الأمسية الحديثة، كما تقدّم اليوم في حواضر الثقافة حول العالم، لم تعد موسيقية بالضرورة، وإنما صار لها بالأساس وظيفة روحية.
من حيث الشكل، تشيع اليوم الجلسة الطويلة المستمرة من دون انقطاع. بينما في الأمس القريب، ظلت تتخلل أغلب الحفلات الموسيقية، فاصلة نصفية لمدة عشر إلى عشرين دقيقة. بات عدد متزايد من العروض يُقدّم وجبة واحدة من دون استراحة. حتى برنامج الحفل، أخذ يتألف من معزوفة واحدة طويلة، عوضاً عن مقطوعات عادة ما يعقب كلّ منها تصفيقٌ مُتأمّل من الجمهور.
لم تعد الأمسية موسيقية فقط وإنما صار لها وظيفة روحية
كان لوباء كورونا الفضل في اللجوء المتزايد إلى هكذا برمجة. الفواصل، إضافة إلى كونها استراحات، كانت أيضاً فرصة لبيع المشروبات والمأكولات، تحقق عائداً مادياً مُضافاً على بيع التذاكر. علاوة على كونها فرصة اجتماعية أمام المُرتادين للتعارف والتسامر. أتت الجائحة وقيود التباعد المُتعلقة بها، لتمنع إقامة الفواصل بين العروض؛ الأمر الذي دفع كلّا من المنظم والمؤدي إلى إعادة النطر بشكل العرض وإطاره الزمني.
إلّا أنّ كورونا، في هذا السياق، كما في السياقات الحياتية المختلفة، يبقى مُسرِّعاً أكثر من كونه مولِّداً لتحولات تدخل بها عوامل أكثر تركيباً؛ منها تلاقح الموسيقى مع فنون الأداء المنبثقة عن الفن المفاهيمي المعاصر Conceptual Art، ترتب على ذلك توكيد البعد المتعلق بالتجربة النفسية والرحلة الذهنية التي يخوضها المتلقي، والتي يُمكن لها أن تكون مُضنية وليست بالأولوية ممتعة، مُقابل جرعات حسية محسوبة بصورة تقليدية، تشكلت بحسبها ولأجلها في ما مضى معظم القوالب الموسيقية. من شأن ذلك، أن يُحوّل الحفل الموسيقي إلى أشبه بطقس شعائري، قُدّاس أو حلقة ذكر صوفية. صار الهدف الرئيس منه هو العبور بكل من المؤدي والمتلقي من حال وجودية إلى أخرى.
على سبيل المثال، رباعي من بين المشاركين كـ أحمد (Ahmed)، والاسم تيمناً بـ أحمد عبد الملك؛ عازف كونتراباص وعود ومؤلف جاز أفريقي - أميركي، اشتُهر خلال فترة البي بوب B bop، وعُرف باستلهامه للموسيقى العربية. يضم كلاً من عازف البيانو البريطاني بات توماس Pat Thomas والسويدي على الكونتراباص المقيم ببرلين جويل غريب Joel Grip فيما على الساكسوفون البريطاني سيمور رايت Seymour Wright والدرامز الفرنسي أنطونان غيبرال Antonin Gerbal.
على مدى الساعة تقريباً، لم يعزف الرباعي من النغمات ما له أن يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. تدور الأصوات وتدور ضمن حلبة من الارتجال التصاعدي العصابي، والتسخين الحسي المتقّد قُدماً. كما لو أن الغاية من العزف، هي إنهاك المستمع لا إمتاعه. أو حتى دفعه إما خارج القاعة، أو داخل نوبة عاتية من الهلوسة؛ فالقصد من خلال التعبير الموسيقي، ليس الأخذ بالمستمع إلى رحاب واقع آخر مواز، وإنما زعزعة الأركان النفسية التي يقوم عليها الواقع الذي يعيشه.
من ضمن "مشاهد الآن"، تلاقح آخر للجاز المعاصر، هذه المرة مع "الموسيقى الجديدة" New Music، التي تقوم تأليفاً أو ارتجالاً على أصوات مجردة خالية من إشارة لحنية، تُصدرها إما الآلات التقليدية بوسائل عزف غير تقليدية، أو الحواسيب كموسيقى إلكترونية. إضافة إلى أيّ من المُعدّات تصدر صوتاً، بما فيها الحنجرة البشرية.
يبقى الجاز نخبوياً في خطابه الجمالي وسعة ناديه المحدودة من المرتادين
بهذا، استخدمت المغنية التركية المقيمة في برلين دجانسو تانريكولو Cansu Tanrıkulu، الصوت البشري، لا للترنيم، وإنما إلى بث المؤثرات الصوتية، ليشاركها الحوار ارتجالاً كل من كريغ كوهن Creg Cohen على الغيتار الكهربائي، وتوبياس ديليوس Tobias Delius أيضاً على مدى جلسة موسيقية مطولة. فيما أسقط في أعلى القاعة فيلم تلعب فيه تانريكولو الدور الوحيد، تدور مشاهده حول الوحدة والاغتراب والعلاقة بوسائل الإعلام. موضوعات دارجة ورائجة ضمن تجهيزات الفن المفاهيمي.
كما في الحياة عامة، حيث عادة ما يُسهم تلاقح سلالة مهددة مع سلالات أخرى بتعزيز فرص بقائها؛ يتناهى الجاز من خلال مهرجانه في برلين، قادراً على التطوّر والتحوّر، ما قد يضمن بقاءه بمعزل عن رياح التغيير الجيوثقافية التي تهب على العالم.
من جهة أخرى، يبقى الجاز نخبوياً في خطابه الجمالي وسعة ناديه المحدودة من المرتادين. لا عيب في ذلك، ما دام الجنس الفني، أو اللون الموسيقي، قادراً على اختبار مجالات أخرى مُحفّزة ومُلهمة، وذلك في عصر باتت الموسيقى فيه أشبه بشعيرة دين العلمانية الجديد.