فيلمٌ جديدٌ للّبناني غسان سلهب، بعنوان "النهر" (2021)، يُشارك في المسابقة الدولية للدورة الـ74 (4 ـ 14 أغسطس/ آب 2021)، لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي" (سويسرا). إنّه أول عرض للفيلم، الذي يُشكِّل ثالث الثلاثية الثانية، بعد "الجبل" (2010) و"الوادي" (2014)، علماً أن الثلاثية الأولى، إنْ صحّ وصفها هكذا، تبدأ أواخر تسعينيات القرن الـ20، مع "أشباح بيروت" (1998)، ثم "أرض مجهولة" (2002)، فـ"الرجل الأخير" (2006).
إنْ تكن ثلاثية سينمائية، أو لا، فإنّ أفلامه تمتلك مشتركات في أسلوب الاشتغال وأنماط المواضيع والتسلسل الخفر للحكايات في طيات صُور ولقطات وشخصياتٍ، وتدفع إلى تأمّلٍ في جماليات الصورة، وتمكّنها البصري والدرامي من اختزال حالاتٍ وحكايات، وتكثيف أجواء وتفاصيل، لحساب صورة تُمعن في تفكيك وقائع وانفعالات، وتصبو إلى إعادة رسم عوالم وذوات.
"الثلاثية الأولى" معنية بذاكرة بلدٍ وأناس، منذ النهاية المعلّقة للحرب الأهلية (1975 ـ 1990) إلى مطلع الألفية الجديدة، من دون أدنى مباشرة مع الحرب ومظاهرها ومساراتها، بل بالتوغّل في آثارها وتأثيراتها في نفوس وعلاقات وتأمّلات وارتباطات وأحوالٍ. التبدّلات الحاصلة يسمها سلهب بقراءة خفيّة، إذ يجعل الصُّور والمتتاليات البصرية ـ مستعيناً أيضاً بحضور متنوّع لشخصياتٍ، عبر ممثلين وممثلاتٍ مختلفي أساليب الأداء والتواصل والتعبير ـ الصدى الأعمق والأصدق لتفكيره وانشغاله بمراقبة أحوال البلد وناسه، وبالتحوّلات الطارئة على مسارٍ وشعورٍ وتفكيرٍ.
في "الثلاثية الثانية"، انصرافٌ أكبر إلى ذات الفرد، وعلاقته بجسده وروحه وعقله، وارتباطه بذاكرته وماضيه وراهنه. إمعان غسان سلهب في تفكيك بنيان الكائن الفرد منبثقٌ من رغبةٍ في تعريته، ودفعه إلى مواجهة ذاته، بإيقافه أمام مرايا عدّة، يصعب التنصّل منها رغم وجعٍ تصنعه، وقسوة في إرغامه على قراءة نفسه. ففي "الجبل"، ينعزل رجلٌ متوسّط العمر (لا اسم له، يؤدّيه فادي أبي سمرا) في مكانٍ كأنّه مطهرٌ، برغبةٍ في اغتسالٍ لعلّه لن يكتمل بحسب مشيئته، أو قد يذهب فيه إلى نهايةٍ مطلوبة. وفي "الوادي"، يتعرّض رجلٌ (لا اسم له أيضاً، يؤدّيه كارلوس شاهين) لحادث سير، يُفقده ذاكرته. رجل "الجبل" يغوص في وحدته حتّى الإسراف والتوهان والتمزّقات، فالتطهّر مُطالَبٌ بمعمودية دم ونارٍ، لعلّ الخروج منها إلى خلاصٍ يتحقّق. ورجل "الوادي" يغرق في فقدان ذاكرته، كأنّ وجوده في منزل عائلةٍ، يصنع أفرادها المخدّرات ويُتاجرون بها (بعضهم يعثر عليه بُعيد لحظاتٍ من تعرّضه لحادث السير)، يُصبح مكاناً يمنحه راحة الفقدان، وسكينة انفصالٍ عن واقعٍ آنيّ.
هذه تفسيرات غير حاسمةٍ. كلّ فيلمٍ يمتلك مساحات شاسعة من أقوالٍ وتأمّلاتٍ ومعاينات دقيقة للبلد وناسه، عبر شخصياتٍ حيّة، كأنّها امتدادٌ لشخصيات "الثلاثية الأولى"، أقلّه في سعيها إلى خلاصٍ ما، بأي ثمنٍ وبأي وسيلة.
تُرى، ما الذي سيرويه غسان سلهب، في "النهر" (السيناريو له. تمثيل علي سليمان ويمنى مروان. تصوير باسم فيّاض. توليف ميشيل تيّان. موسيقى شريف صحناوي)؟ الملخّص الرسمي يقول إنّ الفيلم يتناول قصّة رجل وامرأة، ما إنْ يبدآن مغادرة مطعم في منطقة جبلية لبنانية، في أحد أيام الخريف، حتى يُفاجَآ بأصوات طائرات حربية تُحلّق على ارتفاع منخفض: "يشعران كأنّ الحرب مندلعة مرّة أخرى". في تلك اللحظة، تغيب المرأة عن أنظار الرجل، الذي يبدأ البحث عنها، فيعثر عليها في الجانب الآخر من الجبل: "يغرقان معاً في عمق الطبيعة، كذاك الخيط الرفيع الذي يربط أحدهما بالآخر".