تعرض المنصّة اللبنانية "أفلامنا"، بدءاً من 24 مايو/ أيار 2021، وثائقياً للمخرجة الراحلة رندة الشهّال (1953 ـ 2008)، بعنوان "سهى، النجاة من الجحيم" (فرنسا، 2001، 57 د.). يتزامن بدء العرض (المُنتهي في اليوم الأخير من الشهر نفسه) مع احتفالٍ لبناني بالذكرى الـ21 لتحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي (25/ 5/ 2000). احتفالٌ كهذا مُصاب بأعطابٍ، أبرزها انقسام داخليّ عميق في شؤونٍ كثيرة، وأزمات اقتصاد ومال وسياسة واجتماع وإعلام وثقافة.
الوثائقيّ تجربةٌ، تُستعاد فيها أيام القهر والمصائب والتعذيب، التي تعيشها سهى بشارة 10 أعوام (بينها 6 أعوام في العزلة التامة) في "معتقل الخيام"، أحد أسوأ المعتقلات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني المحتلّ. تُحاول بشارة قتل العميل أنطوان لحد (1927 ـ 2015)، قائد "جيش لبنان الجنوبي"، في منزله (17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988)، بمسدسٍ، بعد أشهرٍ من المواربة والاحتيال اللذين تعتمدهما المناضلة الشيوعية لكسب ثقة زوجته، والتمكّن من الدخول إلى المنزل من دون إثارة شكوك. المحاولة هذه اختبارٌ إضافيّ لقدرةِ إمكاناتٍ متواضعة على تحقيق شيءٍ مطلوبٍ وأساسيّ في المواجهة الدائمة بين مُحتلّ وأبناء البلد وبناته.
المحاولة جزءٌ من مسارٍ تعتمده "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)" بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان (6 يونيو/ حزيران 1982). سهى بشارة (1967) تنضمّ إلى مناضلين ومناضلات في أحزابٍ علمانية لبنانية، لمقاومة محتلّ غير قادرٍ على حماية جنوده من ضربات "جمول"، ثم "المقاومة الإسلامية". المناضلة الشيوعية الشابّة تتحمّس لخوض التجربة، فيجري التخطيط والتنفيذ. لكنّ الاغتيال غير مُنجَز، والاعتقال يُصبح تدريباً أمنياً عسكرياً لإسرائيليي "معتقل الخيام" ولبنانييه المتعاملين معهم، في مسائل التعذيب والتنكيل والمَهانة، مع فشلٍ ذريعٍ في تحطيم إرادة وتفكير، رغم أهوالٍ عدّة.
"النجاة من الجحيم" فعلٌ ذاتيّ مشترك بين معتَقَلي "الخيام" ومعتَقلاته. الوصف الموضوع في عنوان الوثائقي (الجحيم) منبثق من واقعٍ يعيشه هؤلاء، ويُدركه كثيرون بفضل أخبارٍ تتسرّب من داخله إلى خارجٍ، يُحاول فاعلون فيه العثور على وسائل للتضامن، أو لتخفيف حدّة القهر، أو لإطلاق سراح البعض. بعد "النجاة من الجحيم"، تُصدر بشارة كتاباً باللغة الفرنسية (2003)، بعنوان "مُقاوِمة (Resistante)"، تُضمِّنه سيرتها وتأمّلاتها، وأشكال صمودها، وعلاقاتها بمعتَقلاتٍ أخرياتٍ في زنزانات مشتركة، وأخرى فردية يوضعن فيها أحياناً لتنفيذ عقوبات، أو لإضافة أهوالٍ.
رندة الشهّال قادمةٌ من حيّز نضاليّ يقترب كثيراً من ذاك الذي تنخرط سهى بشارة فيه. سينمائيّة ملتزمة يساراً لبنانياً عربياً، تُقرِّر سرد حكاية المقاوِمة الشابّة عبر صُور وتوثيق، تترافق مع عودة إلى المعتقل نفسه، والزنزانة نفسها، والأروقة نفسها، والنوافذ الصغيرة نفسها، والأحلام نفسها. في هذا، تبدو الشهّال كأنّها على مسافةٍ ملتبسة مع المناضلة وتفاصيل عيشها، فتثير وهماً بأنّها مكتفيةٌ بالتقاط ما تُصوّره الكاميرا (الشهّال، كاتبة السيناريو أيضاً)، قبل أنْ يكشف المونتاج (إيف دِشان) تورّط المخرجة في إعادة صوغ المشهد الحياتيّ في قلب الجحيم.
لن يبقى "معتَقل الخيام" المكان الوحيد لسيرة سهى بشارة واشتغالات رندة الشهّال. فالسيرة تذهب إلى بلدة الأولى (دير ميماس، قضاء مرجعيون، جنوب لبنان)، في مسارٍ موصوفٍ بأنّه "رحلة عودة"، تبغي السينمائية منها وعبرها تحقيق شريطٍ يوثِّق حكاية شابّة مُقاومِة، وسيرة مقاوَمَة، ويوميات أمكنةٍ تعاني أهوال الاحتلال أيضاً (تعود بشارة أيضاً إلى حيث تُحاول اغتيال لحد). واشتغالات الشهّال تخترق الظاهر، لكشفِ حالاتٍ أكبر من فردٍ، وأوسع من حيّز، مع التزامٍ ـ أخلاقي وثقافي وفني ـ بحكاية الفرد والحيّز معاً. بهذا، تُحوِّل الشهّال مفردات الفيلم الوثائقي إلى منافذ تُتيح دخولاً إلى عوالم وتفاصيل، يكون (الدخول) مليئاً بمطبّات وثقلٍ وتحدّيات، تُشكِّل كلّها نواة درامية لمُنجَزٍ، يُحاول إزالة الحدّ الفاصل بين التوثيق والمتخيّل، كاختبارٍ سينمائيّ في بلورة مفهومٍ مختلف للوثائقيّ.
الأمكنة، التي تعود بشارة إليها برفقة الشهّال، تتناقض مناخاتها وعوالمها في ذاكرة الأولى، بين راحةٍ منبثقةٍ من عيشٍ طفوليّ ومُراهَقَةٍ كأنّها مبتورة (لبشارة وعيٌ متجذّر إزاء احتلالٍ إسرائيلي دائم لبلدتها وبلدها، إذ إنّها لن تعرف شيئاً آخر سواه)، وانخراطٍ في نضالٍ مبنيّ على ثقافة والتزام وجرأة، وسقوطٍ في دهاليز الموت المؤجَّل في جحيمٍ، ستتمكّن الشابّة من غلبته قبل خروجها منه، وفي أعوامه الطويلة.
في تعريفٍ به، يُذكَر أنّ الفيلم "يوميات سفر سعيدة وجادّة ومتحرّرة". كأنّ "رحلة العودة" تلك، يُراد لها إشاعة إحساسٍ، وإنْ لفترة قصيرة، بـ"إمكانية المُصالحة مع بلدنا". رغبة رندة الشهّال في هذا غير متحقِّقةٍ. تحرير البلد من الاحتلال الإسرائيلي (25 مايو/ أيار 2000) قبل خمسة أعوام على "إخراج" الجيش السوري منه (26 إبريل/ نيسان 2005)، بعد نحو 30 عاماً من دخوله إليه (5 يونيو/ حزيران 1976)، غير قادرٍ على إصلاح العلاقة السوية ببلدٍ وناسه.
"النجاة من الجحيم" قدرُ سهى بشارة، لقناعةٍ صلبة فيها تقول إنّ الحقّ أقوى، والالتزام أعمق، والتصدّي واجب. الوثائقيّ دعوة إلى استعادةِ بعض ذاكرةٍ، تصنع جزءاً من تاريخ بلدٍ وناسه وحكاياته.