"المذنب" بحسب أنطوان فوكوا: جودة الصوت تغلب ثراء الصورة

03 يونيو 2022
أنطوان فوكوا: إتقان صُنع تُحفة فنية في نسخة مؤمركة (توماسو بادي/Getty)
+ الخط -

 

شرطيٌّ في زاويةٍ، في مكانٍ مغلق، يتواصل من عالمه الداخلي مع العالم الخارجي. شرطي تحت الضغط، يعمل في عزلة. يقدّم البطل في لقطات مقرّبة جداً، تنتهك حميمية الشخصية التي تتواصل عبر الهاتف. تجري أحداث الفيلم في 8 ساعات، ما يجعل التوتّر شديداً. لا نرى من يتحدّث، ولا ما يجري. التراجيديا خارج الكادر، تُنقل بالصوت لا بالصورة. صوتٌ كثيف مؤثّر.

هذا في "المُذْنب" (2021، 90 دقيقة)، للأميركي أنطوان فوكوا. نسخة أميركية عن فيلم دنماركي بالعنوان نفسه (2018)، لغوستاف مولر، حقّق نجاحاً نقدياً، كما في المهرجانات، فقرّرت منصّة "نتفليكس" إنتاج نسخة مؤمركة منه. نُقلت أحداثه إلى لوس أنجليس، مركز الكون بالنسبة إلى هوليوود. تغيّر مكان الأحداث من الهامش إلى المركز. لتعميق درامية المكان بالزمن، جرت الأحداث أثناء اندلاع حرائق الغابات في كاليفورنيا. لزيادة منسوب الدراما، صُوِّرت الحرائق عند اندلاعها، ثمّ دُمِجَت في الفيلم. في هذا السياق، يتعرّض الجميع لضغط الدخان، والزمن.

الشريط الصوتي في النسخة الأولى بسيطٌ وفقيرٌ، بينما في النسخة المؤمركة مُذهلٌ. يُشَكّ في أنّ شركات صغرى يُمكن أنْ توفّره، وفي أنْ تملك موارد ووسائل التلاعب بالحواس الخمس للبشر، في زمن الثورة التكنولوجية.

هذا الفيلم طبعة عالمية لنسخة محلية. فيه لمسة تقنية وتجارية أكبر. كلّ فيلم تعيد "نتفليكس" كتابته وإنجازه وإطلاقه، تصير الطبعة الجديدة منه أشهر من الأصلية. هكذا تعيد المنصّة الأميركية صوغ الفن العالمي من منظورها. تُنمِّط المجتمعات والفنون، فتختفي الفوارق. هذا حصل في المواسم الأخيرة من سلسلة "لا كاسا دي بابِل". للتمويل الكبير تأثيره في الفن. هنا يُسمِع المال صوته. يظهر هذا في "المُذْنب"، في جودة التصوير، وثراء الصوت، لاقتناص المتفرّجين.

حين يشتدّ الضغط على المُذْنب، يختنق. التنفّس استعارة للفيلم: "المكان مُظلم ولا أستطيع التنفّس". هذا "لايت موتيف" الفيلم، والمُبرّر مكانيّ: حرائق كاليفورنيا.

تشتبك قصّة الضابط بقصة المتّصلين به. اقترب أكثر مما ينبغي ممن يشتكون، لأنه رجلٌ يجذب المصائب. صديقه مثله، لا يلتزم القانون. يكشف عنفُه اللفظيّ طريقةَ تعامله مع أسرته. التعساء ينقذون التعساء. يُفترض برجال الشرطة أنْ يكونوا أسوياء. يديرون وضعيات مختلّة. المفاجأة أنْ يعيش الشرطي نفسه اختلالاً.

ضابط يُسقط تعقيدات حياته الشخصية على عمله. يعمل في مناوبة ليلية. عصبيُّ، يفضح غضبُه عدوانيّتَه. مُتابَع في قضية جنائية. مصيره مرتبط بشاهد سكّير في المحكمة. شاهدٌ كذّاب، يزعم أنّه في مكتب العمل، بينما هو رفقة امرأة تشهق. يُفترض به أنْ يستنتج من الصوت أنّ هذا الشاهد سيحطّم مستقبله. تصل هذه المعلومات إلى المتفرّج عن طريق الأذن.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

في "المُذنب" فراغات كثيرة، تُحرّض المتفرّج على تشغيل خياله، لإتمام الصورة المفقودة لديه. إنّه (الفيلم) عيّنة لغلبة الصوت على الصورة في السرد الفيلمي. عندما لا يكون هناك حدث، يُكثر السيناريست نِك بِزولاتو من الحوار. كيف يُعزّز الحوار معنى الصُوَر؟ كيف يكشف الحوار الشخصية؟ كيف يُضيء الحوار، أو التعليق، أو الصوت، المشهد الذي يجري؟

حوارٌ قصير اشتُغِل عليه طويلاً. بذل الممثلون جهداً كبيراً لجعل أصواتهم مُعبّرة عما لا يُرى، في فيلمٍ يشبه مسرحية إذاعية، رفعها مونتاج الصوت إلى مستوى عال. صوتٌ سهل التمويه على السمع، لأنّ العين لم تُشاهد، وحين انكشفت الحقيقة، تقيّأ الشرطيّ الأكاذيب التي تلقّتها أذنه، وطلب من شاهده تقديم الحقيقة. هكذا يهدم النصف الثاني النصف الأول خطوة خطوة.

وضع المخرج الصوت والصورة في سباق كشف المعلومات. هكذا حذف أنطوان فوكوا الصورة، فألقى العبء على الصوت لتوضيح القصة. هناك صورة واحدة، وعشرات المعلومات التي تنكشف عن الفرد، بفضل هاتفه ورقم سيارته وملف سوابقه وموقعه، وبفضل "غوغل".

السلاح الوحيد للإنقاذ هاتفٌ. اتصل الشرطي بـ3 أفراد من عائلة واحدة. يتخيّل المتفرّج الشخصية انطلاقاً من صوتها. تتبدّل نبرات صوت شخصية تحكي وتتذكّر وتبكي. يتولّى الشرطيّ تدبير حالة جنون عن بعد، بالصوت، بينما يتواصل صبّ المعلومات والأحاسيس والأنين. بفضل هذا، يتصوّر المتفرّج ويتخيّل الشخصيةَ المتّصلة، التي لا تظهر على الشاشة.

قرأتُ أنّ الصوت يُسمّم الصورة في السينما. هذا وهم، مع اكتشاف قول روبير بريسّون عن الصوت والصورة، في كتابه "ملاحظات على السينماتوغراف" (Notes Sur Le Cinematographe). قال إنّه يمكن للصوت أنْ يُعوّض عن الصورة في نقل المعلومة، وربما يُضاعف تأثيرها.

في الطبعة الأميركية من "المُذْنب"، يتواصل الصوت بقوّة مع المتلقّي، ويزوّده بما يكفي من المعلومات والأحاسيس، التي تؤهّله لفهم ما يجري، بل لتخيّل التتمات المُحتملة.

المساهمون