"المترجم": عاديّ سينمائياً مع حكاية مهمّة

20 ابريل 2022
زياد بكري في "المترجم": تمثيلٌ مهنيّ لشخصية قلقة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

جملةٌ واحدةٌ، بكلماتٍ قليلة، تُحدِّد فيلماً يروي وقائع عيشٍ وهجرة وحربٍ وخرابٍ وتمزّقات: "كلمة يُمكن أنْ تُغيّر حياتك إلى الأبد". جملةٌ تختزل سيرة سامي نجار (زياد بكري)، المُترجِم الذي يبقى في سيدني (أستراليا)، بسبب زلّة لسان، تتمثّل بكلمة واحدة.

تقول الحكاية إنّ سامي يُرافق أعضاء الفريق الأولمبي السوري إلى سيدني، عام 2000، ليُترجم لهم بين الإنكليزية والعربية. زلّة اللسان تلك تحصل في ترجمة تصريحٍ لمنيب (رمزي مقدسي)، أحد أبطال الفريق، أمام إعلاميين وصحافيين، إذْ يُسأل عن بلده، فيكون الخطأ بداية سيرتين، تختلف إحداهما عن الأخرى: سيرة سامي في الغربة (لن يتجرّأ على العودة إلى بلده)، وسيرة منيب، التي تُكتشف لاحقاً، وتُروى بتكثيفٍ درامي، فالحبكة معقودة على سامي، وعلى عودته السرّية إلى بلده، بعد اعتقال شقيقه إثر اندلاع الثورة السورية، عام 2011.

تُعرف الكلمة/الخطأ/زلّة اللسان بعد وقتٍ. لقطات أولى في "المترجم" (2020)، للسوريين رنا كزكز وأنس خلف، تكشف شيئاً من نزاعات حاصلة في البلد، في مرحلة طفولة الشقيقين. مسار حياتي يمرّ سريعاً، وتبدأ الحكاية من لحظة الخطأ، في سيدني، ثم التسلّل إلى بلدٍ يعاني حرباً وعنفاً وقتلاً وتشويهاً. البحث عن الشقيق المعتقل رحلةٌ في أعماقٍ عدّة: الذات وتساؤلاتها عن الهجرة والبقاء؛ الثورة والحياة والمدينة؛ تحوّلات في العلاقات المتشعّبة، بين الناس وأنفسهم، وبين الناس والآخرين، وبين الناس والبلد والعيش فيه، وبين الناس والثورة والحرب. مسارات عدّة يربطها بحث سامي عن شقيقه، في خراب مدينة ونفوس وأرواح.

التسلّل إلى البلد حاصلٌ بفضل علاقة تشايس (ديفيد فيلد)، صديق سامي، بجاد حداد (فارس الحلو)، الذي يُقتل مع تشايس أمام عينيْ سامي، المختبئ في المقعد الخلفي للسيارة، فور وصولهما إلى البلد.

هذه تفاصيل تُدخل سامي نجار في عالمٍ مليء بالعنف والدم والركام، وهذا غير متوقّف عند أبنية وشوارع، فاللقاء العائلي مع كرمى (يُمنى مروان)، زوجة الشقيق، ومن بقي معها، مفتوح على مسائل تشي بعنفٍ وركامٍ أيضاً. تلك الرحلة ـ التي يُفترض بها أنْ تبحث عن شقيقٍ معتقل، وأنْ تزيل غباراً وأنقاضاً عن حربٍ ونفوس ـ تُعرّي حقائق مخبّأة، وتضع كلّ فردٍ أمام مرآة ذاته، خاصة سامي، المرتبك والقلق، كأنّه عاجزٌ عن الاغتسال من زلّة لسانٍ، رغم تمتّعه بإقامةٍ شرعية في بلد المهجر.

البحث عن الشقيق يؤدّي بسامي إلى لقاءٍ مع منيب والجنرال (كارلوس شاهين)، والأخير موجودٌ لحظة ارتكاب سامي زلّة اللسان تلك. كلامٌ مكثّف يوضح مسائل عالقة بين الثلاثيّ، ويكشف الكلمة التي تصنع حياةً يُصوّرها فيلمٌ، يُفكِّك أحوالاً، ويلتقط انفعالاتٍ، ويسرد مقتطفات من سيرة الجحيم السوري. تحدّيات عدّة يعانيها منيب والجنرال، قبل بلوغهما مرتبةً مرموقة في نظامٍ متسلّط؛ وأخرى يعيشها سامي في مهجره، وفي عودته أيضاً. المواجهة بينهم مفتوحة على ماضٍ، جراحه غير مندملة؛ وعلى راهنٍ، يزداد غرقاً في عنفٍ ودمٍ وركام. كشف الكلمة/الخطأ/زلّة اللسان يترافق وتصفياتٍ، يريد منيب والجنرال خلاصاً منها، عبر سامي نفسه. الاعتراف بالخطأ، وإعلانه أمام بلدٍ، بناسه ونظامه وأنماط عيشه.

هل يستجيب سامي نجار لمطلب منيب والجنرال، والمطلب أمرٌ صارمٌ غير قابلٍ لأي نقاشٍ، في مقابل إنقاذ شقيقه؟ هل تكون الاستجابة، إنْ تحصل، خلاصاً فعلياً للثلاثيّ، كأنْ يتحرّر منيب والجنرال من ثقل ماضٍ يُشوِّههما ويفرض عليهما أفعالاً لحماية نفسيهما من موتٍ أو تعذيبٍ؟ وكأنْ يخرج سامي من ورطة الخطأ، إنْ يكن الخطأ مقصوداً أو مجرّد زلّة لسان؟ معرفة إجابات غير مهمّة، فالأهمّ كامنٌ في تلك الرحلة، بتفاصيلها ومخاوفها وآلامها وذكرياتها، وفي ذاك البلد، بأوجاعه ودماره ويومياته وقلاقل ناسه.

 

 

سينمائياً، "المترجم" غير باهرٍ بجمالياتٍ بصرية وفنية ودرامية غير مألوفة. حِرفيّة اشتغاله ضمانةٌ له بعدم خروجه على المطلوب، المُصوَّر بشكل عاديّ، يُتيح للمُشاهِد، أو هكذا يُتوقّع منه (الشكل العاديّ)، مساحة أهدأ لمتابعة مسارٍ، وللتفكير في نقاطٍ ومسائل وحالات، ولتأمّل في تمثيلٍ، يؤدّيه كثيرون في لقطات عابرة (السوريان فارس الحلو ورامي فرح، والفلسطينيان كمال الباشا وآن ماري جاسر، مثلاً) وبعضهم يظهر أكثر من غيره (الفلسطيني رمزي مقدسي، واللبنانيان كارلوس شاهين ويمنى مروان). اختيار هؤلاء وآخرين، غير مبرَّر درامياً، رغم أنّ للشخصيات التي يؤدّونها أدواراً ما في مفصلٍ أو لحظةٍ أو حالة؛ ورغم أهمية كونه (الاختيار) تعبيراً عن رغبة في تشكيل فريقٍ من جنسيات عربية مختلفة (هناك ممثلون وممثلات أجانب أيضاً). المُفيد في هذا، سينمائياً، قليلٌ، فهؤلاء عابرون، بينما مقدسي وشاهين غير متمكّنين كفايةً من أداء شخصيتين، يُفترض بهما أنْ تكونا سوريّتين، وإنْ يجهدان في نبرةٍ سوريّة، لعلّ المُشاهد الأجنبي غير مُنتبهٍ إليها، وغير مُكترثٍ بها.

يحاول الفلسطيني زياد بكري ضبط أدائه في شخصية رجلٍ، يشعر بلعنةٍ تُقيم فيه، ويجهد في التحرّر منها. زلّة اللسان تلك، التي تجعله يُقيم في أستراليا، بعيداً عن خراب بلده قبل الثورة وفيها، ماثلةٌ في مدى أبعد من التأثير السلبي لها على ذاته وروحه وعقله. كأنّه متصالحٌ، ضمنياً، مع بقائه في غربةٍ، تُتيح له عيشاً أفضل. وإنْ لم تفعل، فبكري غير قادرٍ على إبراز فشل العيش الأفضل في سلوك سامي نجار وتصرّفاته. أما العودة إلى البلد، والبحث عن الشقيق، فيؤدّي بكري فيهما ارتباكات سامي ومخاوفه وأسئلته بمهنيّةٍ مطلوبة.

التقنيات الأخرى، كالتصوير (ايريك دُفان) والمونتاج (مونيك دارتُنّ) والصوت (لوك كوفال ودوني سِشو وبنجامن فرنسوا)، تساهم في إنجاز فيلمٍ، يُعامَل كشهادة سينمائية عن واقعٍ وتساؤلاتٍ وتحدّياتٍ وعلاقاتٍ. إنجازه حاصلٌ عام 2020، وإطلالته الأساسية متمثّلةٌ في مشاركته في الدورة الـ45 (10 ـ 21 سبتمبر/أيلول 2020) لـ"مهرجان تورنتو السينمائي الدولي"، وعرضه التجاري الفرنسي مؤجّل إلى 6 أكتوبر/تشرين الأول 2021. تُنظِّم شركة "أم سي للتوزيع" (بيروت) عرضاً خاصاً له في "المعهد الفرنسي في بيروت" (30 مارس/آذار 2022)، ما يُشير إلى إمكانية عرضه التجاري في صالات لبنانية مختلفة.

المساهمون