"الغسق" بحسب بارتِس: جغرافيا تصنع جحيم الدراما

17 مارس 2021
سارونِس بارتِس: الفن أكثر مصداقية (كلود ميدال/ Getty)
+ الخط -

أيّ مصيبة أنْ يكون بلدٌ ما جاراً لروسيا؟ أيّ شقاء أنْ يكون فلاحٌ ليتواني جاراً للرفيق جوزيف ستالين؟ هذا الجوار معطى جغرافي، يرفع منسوب الدراما التاريخية والفردية إلى مستوى الجحيم، في "عند الغسق" (2019)، للمخرج الليتواني سارونِس بارتِس (1964).

في الفيلم، يُطبّق الجيش الأحمر طريقة خاصة للبحث عن المشتبه بهم: يُشعل النار في البيوت، فيخرج كلّ من فيها. بينما الدعاية السوفييتية تُجلجل بتحرير البروليتاريا، يسحق بوليس ستالين الفلاحين، وينهب ما يسدّون به جوعهم. فيلمٌ تاريخي، يجد امتداداً له في هذه اللحظة، التي يسمِّم فيها الرفيق السابق فلاديمير بوتين خصومه، عام 2021. هكذا يتّضح للمتفرّج مدى امتداد الماضي العنيف لروسيا في حاضرها.

"عند الغسق" ـ الفائز بـ"الجائزة الكبرى ـ أنفا الذهبية"، في الدورة الأولى (27 ـ 31 يناير/ كانون الثاني 2021) لـ"المهرجان الدولي للسينما المستقلّة بالدار البيضاء" ـ ينتمي إلى السينما المستقلّة، ويتناول قانون السوق ومنطق العرض والطلب. فيلمٌ سينمائي، أيّ أنّه بعيدٌ عن أسلوب وإيقاع أفلام التلفزيون. يكشف مدى تطوّر سينما دول البلطيق وأوروبا الشرقية عامة، أي السينما التي سحقها الجار الرهيب زمناً طويلاً، بإجبارها على أنْ تكون أفلامها واقعية اشتراكية، فصارت مجرّد بروباغندا ميتة.

في الفيلم، شعْبٌ يعيش الخوف والجوع. هذا يُبرِّر كآبة الشخصيات فنياً، ويجعلها مُعْدية نفسياً. للوصول إلى هذا التأثير، يتّخذ بارتس وقتاً كافياً ليُقدّم كاتالوغاً ثرِياً من الوجوه التي تئنّ تحت سلطة ساحقة، من دون أيّ إمكانية للتمرّد والمقاومة. وجوه بائسة، تتعرّض للاستجواب من ضابط ذي وجه سمين يلمع كأنّه مدهون بالزبدة. عنف مركّب، يفرز الدموع في العيون.

يتحقّق هذا بفضل سرد يتغذّى من التجربة التاريخية أكثر من الخيال. فيلم "غروب" ليتوانيّ، لحظة مقتطعة من تاريخ دموي في حضن الجار الروسي، يدلّ فيها الجزءُ على الكلّ.

يقدّم المخرج شخصيات في سنّ الخمسين. يعني أنّها عاشت مآسي النصف الأول من القرن العشرين. شخصيات ذات وجوه عابسة، وخطوط جبين منكمشة، تحمل تجاعيدها هَمّاً راسخاً تحت إضاءة معتمة، في بلدٍ لم تشرق فيه لا شمس السماء ولا شمس الحرية. إضاءة تجعل اللقطات لوحاتٍ زيتية.

يقدّم "عند الغسق" أجواء وإضاءة داكنة وإيقاعاً تواصلياً بطيئاً. هذا يُسبّب مللاً لمتفرّج شاب، لا يعرف ولا يعنيه ما جرى.

حكاية شاب وعجوز يجمعهما المصير نفسه. سردٌ مسترخ لا مسلوق. مسترخ أكثر مما يجب، ويُسبّب مللاً. إيقاع رتيب يليق بزمن منطقة نائية معزولة، لا يقع فيها شيء إلّا عندما يُهاجمها جنود الرفيق الدموي ستالين. هناك من تعايش مع القهر، وهناك من لاذ بالصلاة وأيقونة المسيح، وهناك من حاول أن يقاوم. لكنْ، كيف يُمكن للنملة أنْ تخرج من تحت بطن الفيل؟

 

 

لا بُدّ من معجزة تاريخية، تأخّرت 40 عاماً، أي حتّى عام 1990. في تلك الفترة، يخرج المتّهم الليتواني من مكتب التحقيق محمولاً. الأب والابن في السجن. بطلٌ إيجابي حارب وانهزم، يتصرّف بكرامة، ولم يفقد إنسانيته. أبٌ يحبّ أنْ يساعد، ويتوقّع مستقبلاً أفضل لابنه. لكن توالي الأحداث يُبرز أنّ حاضر الأب هو نفسه مستقبل الشاب. النتيجة: هذا شاب لا يعكس عمره مزاجه العكر. يمشي وذراعاه ملتصقتان بجسده كأنّه جثة. يواجه تحدّياً. خسر جيل الشيوخ الصراع ضد روسيا، فيُلقي على جيل الأحفاد عبئاً رهيباً لمواجهة قياصرة الرفاق.

نجح سارونِس بارتِس في تصوير البؤس والخوف من دون ضجيج. وجوه حول مائدة، عليها صحون فارغة. نجح في تحدّي جعل المزاج البشري مرئياً للكاميرا، وذلك من دون موسيقى تصويرية تُملي معنى معيناً. ليست صدفة أنْ يتمّ اختيار "عند الغسق" للمسابقة الرسمية للدورة الـ73 لمهرجان "كانّ" السينمائي (2020)، الملغاة بسبب كورونا. مع هذا، يحصل الفيلم على "سمة المهرجان".

يبدو أنّ قصّة الفيلم تكرّر وقوع مثيل لها. جرت أحداثها منذ 70 عاماً، فرُوِيت مراراً. لذلك، صقلها التكرار والتقادم، فوصلت الحبكة إلى الكاميرا الطازجة لسارونِس بارتِس. النتيجة: فيلمٌ مطبوخ على مهل، لا فيلماً مغليّاً في ماء. هذا نقيض حبكة مسلوقة ومصطنعة وركيكة، يخترعها سيناريست غير قصّاص، يصوغ شخصيات مفبركة بلاستيكية تخضع للوصاية ولا تملك استقلاليتها. لمحاولة تقويتها، يتمّ السرد بإقحام فرضيات نفسية تقودها بدلاً من أن يترك المخرج شخصياته لتواجه قسوة الواقع.

هنا، يتّخذ مسار الأحداث توجّهاً مفتعلاً. مسار مقصود في هذا السياق. يقول لوسيان غولدمان: "كلُّ انتصار للنوايا الواعية سيكون مميتاً للعمل الأدبي (والفني)، الذي تتوقّف قيمته الاستتيقية على المقياس الذي يعبر فيه، رغم وضد النوايا والقناعات الواعية للكاتب، عن الكيفية التي يحسّ هذا الكاتب من خلالها وينظر عبرها إلى شخصياته" ("البنيوية التكوينية والنقد الأدبي"، ص17.). عندما يكون أثر الاختراع على الحبكة واضحاً، تصير مجرّد تلفيق يُضعف التشويق.

يقدّم سارونِس بارتِس مختبر أحاسيسٍ إنسانية، تعطي صورة عن المجتمع الذي تجري فيه الأحداث. هنا، يكشف القبح الاجتماعي جمالياته المؤثرة. هذه حبكة حقيقية متلاحمة ومقنعة، أثمرت شخصيات حيّة، فيها لمسة من الخام يجعلها أقرب إلى الواقع. ترك المخرج شخصياته تصوغ منظورها من موقعها على الأرض، حتى لو هُزمت. تتّخذ الأحداث منحنيات عنيفة، لكنّها متولّدة من تربة شخصيات تحاول العيش، ولا تعكس نظريات نفسية واجتماعية جاهزة.

الفن الأكثر مصداقية هو الذي يؤثّر.

المساهمون