يحتال علي (عماد عزمي) على الجميع: أهلٌ وأصدقاء ومعارف. يقول بعملٍ له مع شركة أميركية، لكنّ الواقع مختلفٌ تماماً، وهذا لن يعرفه أحدٌ، بمن فيهم حبيبته لانا (بركة رحماني). الشبّيح المتسلّط على الناس والمدينة، عباس (منذر رياحنة)، يعرف علي جيّداً، كما يعرف كلّ شيءٍ وكلّ أحدٍ في الحيّز الجغرافي الذي يملكه، ليلاً ونهاراً. أسيل (نادرة عمران) قلِقة على ابنتها لانا، خاصة بعد معرفتها بعلاقة الحبّ التي تربط الشابّة بعلي. هذه المعرفة متأتية من حدثٍ واحد، يكون صادماً لها، فتزور عباس طالبةً منه خلاصاً من فضيحةٍ. زيارتها تلك ستؤدّي إلى سلسلة ارتباكات وقلاقل ومآزق، وستُعرّي أناساً يختبئون وراء جدران التلصّص والعزلات، وستكشف أحوالاً وتخبّطات وخيبات.
يحدث هذا في حيّ شعبيّ يُعرف بالحارة. مفردة تقول كثيراً عن بيئة شعبية، يُصوّر الأردني باسل غندور جوانب منها، عبر قصّة الحبّ تلك، التي تفتتح مساراً درامياً وثقافياً واجتماعياً لأفرادٍ، يعيشون في حصار خانق، يُعبِّر عنه علي نفسه أمام صديقه بهاء (محمد الجيزاري)، بقوله إنّه يريد خروجاً من هذا الحصار، لخلاصٍ من ذاك الاختناق.
كلّ تفصيلٍ يستلّه غندور من وقائع العيش في بيئة شعبية. كلّ قول وتعبير، وكلّ علاقة وحالة وانفعال وتأمّل ورغبة وتوقّعات، تسم أناساً ومكاناً وسلوكاً. الواقعية أساسيّة في نصٍّ يسرد عيشاً وتخبّطات وخيبات، وتصويرها (مدير التصوير جاستن هاملتون) معنيٌّ بحيويتها ومفرداتها ومسالك ناسها، من دون أحكامٍ. هذا
كلّه يجعل "الحارة" (2021) مرآة متعدّدة الأبعاد والزوايا، فالتفاصيل الكثيرة تُجمَع في نصٍّ (كتابة غندور) حيوي يعكس شيئاً من حياةٍ يوميةٍ، من دون فذلكة أو تشاوفٍ أو تصنّع أو نقدٍ أو تَعَالٍ.
البساطة أساسية، كما السلاسة، في فيلمٍ يسرد حكايات مُلتقطة من أفرادٍ، أو من كيفية عيشهم وارتباطاتهم. عين الكاميرا توهم بحيادٍ إزاء ما تنقل، لكنّ انعدام الأحكام لن يُلغي ميلاً إلى معاينة أحوال أناسٍ، في علاقات مضطربة، وخيبات قاسية، ومواربات قاتلة، ونزاعات حادّة. العنف مباشرٌ أحياناً، والطِيبة حاضرة أيضاً، وإنْ بشكلٍ يبتعد كلّياً عن توازنات درامية غير نافعةٍ بشيءٍ. هذا كلّه يحدث، لأنّ بيئات اجتماعية كثيرة تعرف أنماط عيشٍ كهذه. تبيان الخير (الطِيبة مثلاً) في مقابل الشرّ (التشبيح والتسلّط) غائبٌ عن "الحارة". لكنّ الخير والشرّ يحضران معاً في أزقّة ونفوسٍ وعلاقات، بأشكالٍ كثيرة.
اكتشاف أسيل ما تعتبره "علاقة محرّمة" بين لانا وعلي يُشكّل منعطفاً أساسياً في مسار درامي، يتوزّع على هوامش تتحوّل إلى بناء سينمائي، يعكس واقعاً. سيرة أسيل تُروى، قبل زواجها من توتو (نديم ريماوي) وبعده؛ كسيرة هنادي (ميساء عبد الهادي)، رفيقة عباس في جوالته التشبيحية على ملاهٍ ليلية، لاستيفاء المتوجَّب على أصحاب الملاهي دفعه له. سيرة هنادي تستعيد ما قبل لقائها بعباس، مُنقذها من وحشٍ يسهر في ملهى، ومُساعدُها على ثأرٍ عنيفٍ. لحظات سرد السيرتين قليلةٌ، والتوليف (إياد حمام) يُتيح لهما كشف مضامينهما سريعاً، لكنْ من دون تسرّع.
السرعة من دون التسرّع سمة لقطات عدّة، رغم أنّ مدّة الفيلم تبلغ 116 دقيقة. التقطيع بين الحكايات والأحداث والشخصيات يُزيل عن مدّة السرد كلّ ثرثرة ومتاهةٍ، لأنّ المسائل مترابطة، والحكايات مختزلة، والأحداث متلاحقة، فـ"الحارة" مبنيّ على مزيج أنواعٍ سينمائية قليلة، كالحبّ والتشويق والعنف، والبحث في نفسٍ فردية واجتماعٍ عام.
مع انعدام كلّ حكمٍ مسبق أو نقدٍ مباشر أو تلقين أخلاقي، تبرز السلاسة والبساطة أداتين دراميتين في قول ما يُراد قوله، وفي التعبير عمّا يُراد الإشارة إليه. السلاسة والبساطة مهمّتان، و"الحارة" يُحافظ عليهما، إذْ يبدو أنّه غير مكترثٍ بغيرهما في سرد تلك الحكايات، وبعض الحكايات يقول بمأزق التلصّص والابتزاز، وبأنّ كشف حقائق لن يُبدِّل شيئاً، وبأنّ التعرية كلّها، اجتماعياً وسلوكياً وعاطفياً وحياتياً، عاجزةٌ عن تغييرٍ فعليّ في نفوسٍ وبيئة ووعيّ.
هذا منسحبٌ على أداءٍ، يوصف بالسلاسة والبساطة أيضاً، أي بمهنيّةٍ محترفة تُتقن تأدية المطلوب، من دون إضافاتٍ، يُفترض بها أنْ تعكس ما يملكه الممثل والممثلة من طاقاتٍ ووعي واختبارات. المهنيّة أساس أداء حِرفيّ. الإضافات رهنٌ بالنصّ وإدارة التمثيل والممثل/الممثلة والإخراج.
"الحارة" يريد مهنيّة واحترافاً. المختارون لتأدية الأدوار يُقدّمون المطلوب منهم، وبعض المُقدَّم مُثير للتنبّه إلى خفايا الحِرفية والاتقان، وهذا كافٍ. لكنّ أداء نادرة عمران تحديداً يشوبه خللٌ بسيط، إذْ تبدو غالباً كأنّها مُرتبكة في مشيتها وحركات جسدها وعينيها وملامحها، رغم تبيانها الجميل لقسوةٍ خفيّة، وقهرٍ مزمن، وخيبات متتالية. ميساء عبد الهادي تتفنّن في اختبار كلّ دورٍ سينمائيّ لها، فتُقدِّم هنادي بما يليق بواقعيّتها، مع شيءٍ من مبالغةٍ في تفاصيل الوجه والحركة والجسد والتصرّف. أمّا بركة رحماني، فتمنح لانا كلّ عشقها ورغباتها وصدماتها وانكساراتها وخيباتها وأحلامها وأوجاعها، إذْ تُخفي كلّ فاصلٍ بين الشخصية والممثلة، جاعلةً من لانا نموذجاً لعاشقةٍ، بكلّ ما تُصاب به العاشقة من انفعالاتٍ وارتباكات وأوجاع.