"الإكودار"... كيف فكّر الإنسان القديم في المخازن الجماعية؟

19 ديسمبر 2021
خصائص جمالية مرتبطة بالمعمار القروي في هذه المخازن الجماعية (جون-دوني جوبير/Getty)
+ الخط -

تأخّر المغرب كثيراً في تقديم طلب من أجل إدراج آثار وشواهد "الإكودار" إلى قائمة منظّمة "يونسكو" للتراث العالمي، بعدما قرّر قبل أيام وزير الشباب والثقافة والتواصل محمّد مهدي بنسعيد تقديم الملف كاملاً بمعيّة خبراء مَغاربة ودوليين للنّظر في الأمر.

هذه الخطوة في محلّها لكونها تخدم ذاكرة المغاربة وتاريخهم، في وقتٍ تطمس فيه العولمة وثقافات الآخر مَعالم التراثين الثقافي والحضاري في المغرب، رغم عدم قدرة الوزارة على تشجيع الباحثين للتأريخ لهذا المعلم التاريخي مونوغرافياً، بحيث لا يعثر القارئ العربي على أيّ معلوماتٍ تاريخيّة علمية تفيد البحث في معرفة سوسيولوجيا المَخازن الجماعية وطرق تدبيرها وقوانينها وصناعتها ومَوادها ودورها التاريخي في ذاكرة الفرد المغربي.

لكنّ الإهمال تتحمّله الوزارة الوصيّة على الشأن الأثري، فثمّة كثير من البنايات الأثريّة التي لا تحتاج فقط إلى كتابة تاريخها ورصد جماليّاتها، وإنّما أيضاً تحتاج إلى ترميمها مخافة أنْ يصيبها التلف جراء عوامل طبيعية كالفيضانات والزلازل والحرائق وارتفاع منسوب مياه البحر، مع أنّ عاملاً كهذا يبقى مُستبعداً في المناطق الجنوبية ذات المناخ الحار، إذ تتركز هذه المَخازن الجماعية في منطقة الأطلس الكبير والصغير، ما يجعل العامل البشري يُشكّل الخطر الأكبر على هذه الآثار التاريخيّة وضمان سيرورتها واستقرارها، أمام ضعف الاهتمام بهذا الموروث المادّي وترميمه وتطويقه وجعله يدخل في مشروع مؤسّسة حضارية تلعب دوراً علمياً وسياحياً، بدل أنْ تبقى مُغتربة وتتحكّم في ترميمها أهواء تتباين حول مدى انتماء هذه الآثار إلى التاريخ الرسميّ أو عدمه.

من هنا، تبرز أهميّة مؤسّسة منظّمة "يونسكو"، لأنّها تفرض برانياً ورمزياً مجموعة من التوصيفات والقوانين على المعنيين بهذا المعلم الأثري، بضرورة أن يحظى بعنايةٍ خاصّة وناجعة على مُستوى التفعيل والتثمين وجعله قوياً وحيوياً وقادراً على التعايش مع السائح الأجنبي. فهذا الأخير، لا يحتاج إلى مُشاهدة الأطلال فقط، بل معرفة تاريخها وذاكرتها وجماليّاتها ودوافعها، وهي أمورٌ تحتاج إلى التكوين والبحث والدراسة والتدقيق في طبيعة المعلومات الشفهية المُنتشرة بين سكان مناطق الجنوب.

لكن بما أنّ هذه المخازن الجماعية في طريقها إلى "يونسكو"، فلا شكَّ أنّ هذه المَعالم الأثريّة الكثيرة، الموجودة في مناطق جبلية مختلفة، ستحظى بأهمّية بالغة من لدن السلطات المحلّية والوزارة المعنيّة.

على هذا الأساس، فإنّ المَخازن الجماعية ذات النموذج المعماري المُذهل الواقع جغرافياً جنوب المغرب تتوفّر على كثيرٍ من الخصائص الجماليّة والفنّية المُرتبطة بالمعمار القروي. كما تُعدّ في نظر بعض المُتخصّصين من البوادر الأولى في علاقة الإنسان القديم بالبيئة وتفكيره في الحفاظ عليها، من خلال إقامة مَخازن تتّخذ من الطين والطوب مادّة لها، ومن الهندسة الأمازيغية رؤية جماليّة مُبسّطة لا تجري وراء التصنّع، إذ تعتمد هذه الشواهد على مواد أكثر بقاءً ومقاومة لعنصر الطبيعة، وأغلبها مصنوعة من الطوب والأجراف والطين.

لذلك، فبقدر ما تُعد "الإكودار" علامة مُضيئة في تاريخ المعمار المغربي، تُعطي الانطباع الأوّل لدى السائح الأجنبي لفهم خصوصيات البلد، وكيف ساهم مَوقعه الجغرافي المُميّز والحضارات الكثيرة التي تعاقبت عليه في جعله يأخذ بعداً مركّباً تنصهر فيه جميع هذه الحضارات وتكوّن تراثاً فنّياً مُتنوّعاً وضارباً في قدم الحضارة.

وهذه المَخازن الجماعية يتجاوز وجودها الوظيفة اليوميّة المُتمثّلة في تخزين الصوف والقمح والزيت والمال والحلي وعقود البيع والشراء والزواج، وتغدو ذات وظيفة دفاعية تتمحور في إقامة أبراجٍ للمُراقبة وتخزين بعض الأسلحة الخفيفة. وبالتالي، فهي تُشكّل عقداً اجتماعياً حقيقياً بين سكّان القبيلة قائماً على التضامن والتآزر في ما بينهم لتخزين المَحاصيل الزراعية وبيعها وما ينتج عنها من خيراتٍ سنوية، ما جعل بعض المُؤرّخين يعتبرونها بمثابة مؤسّسات بنوك تقليدية أولى.

وعلى الرغم من ما لعبته "الإكودار" من دورٍ كبيرٍ في تاريخ القبائل المغربيّة في علاقتها بيوميّات الحياة الاجتماعية، وما رافقها من تصدّع وشظفٍ في العيش، تبقى طريقة بنائها على مستوى المواد عادية، لكنّ هندستها جاءت بشكلٍ إبداعيّ مُتقنٍ اخترقت فيه النّمط الرياضي الدقيق السائد في صناعة القصور والقناطر والقصبات، لا لأنّها نوعية ومُجدّدة بالنّظر إلى باقي الشَواهد الأثريّة المغربيّة، بل لأنّ كلّ ما كان يعني من صمّمها هو في جعلها مؤسّسة اجتماعية قائمة على تخزين الأموال والأسلحة والمَحاصيل الزراعية، خاصّة في فترة المَواسم والحصاد.

المساهمون