"أوركسترا شيكاغو للمغتربين": شكراً أيها الرب الطيب

15 نوفمبر 2020
هناك تفاوت في تجارب أعضاء الأوركسترا كمهاجرين مقيمين في الولايات المتحدة (العربي الجديد)
+ الخط -

في القرن التاسع عشر، قال الكاتب الأميركي مارك توين في وصفه لمدينة شيكاغو إنها "عصيّة على المواكبة"؛ إذ إن المدينة الآخذة أبدا في الاتساع والغنى "تتفوّق على نبوءات المرء أسرع مما يستطيع أن يدرك". شيكاغو هي الموطن للعديد من قبائل سكان أميركا الأصليين، بدأت كميناء تجاري صغير على ضفاف نهر شيكاغو لتتحول مع الوقت لمركز تجاري حيوي دولي، وهي اليوم تعد موطنا للعديد من الجنسيات والأعراق المختلفة.

وفي احتفاء بذلك التنوّع الثقافي، أعادت بلدية شيكاغو إحياء "أوركسترا شيكاغو للمغتربين"، ضمن مهرجان الموسيقى العالمي في شيكاغو، وهو فعالية موسيقية سنوية ضخمة انطلقت عام 1999 لتقدّم للجمهورالأميركي عبر العشرين سنة الماضية أكثر من 700 من الفنانين والفرق الموسيقية العالمية، مغطّية بذلك قرابة الثمانين من بلاد العالم.

يتم دعم المهرجان هذا جزئيا من قبل المنحة الوطنية للفنون (NEA)، وترعاه هيئة النقل (الترانزيت) في شيكاغو CTA، ويجري هذا العام ضمن ولاية عمدة شيكاغو الحالية؛ لوري لايتفوت، وهي العمدة السادسة والخمسون للمدينة.

لم يقف وباء كورونا حائلا دون إقامة المهرجان فجاء استمراره افتراضيا تحت مظلة "شهر الموسيقى العالمية 2020" الذي امتد ما بين نهاية شهر أغسطس/آب، والأول من أكتوبر/تشرين الأول الفائتين. بهذا، جرت احتفالية موسيقية افتراضية قامت باستبدال الجمهور الحي بجماهير خلف الشاشات تشاهد عروضا مسجّلة مسبقا ليتمّ نقلها بتقنية البثّ المباشر في قناة يوتيوب الخاصة بقسم العلاقات الثقافية والفعاليات الخاصة التابع لبلدية مدينة شيكاغو، على أن تبقى الحفلات متوفّرة أونلاين، ما بعد عرضها الأول.

جرى برنامج هذا العام خلال شهر سبتمبر/أيلول، وقد شمل عروضا موسيقية منوّعة قدّمها فنانون أفراد ومجموعات موسيقية جميعهم من مجتمع المهاجرين في شيكاغو، فكانت البداية هندية مع تحية للفنان رافي شانكار، تلاها عرض بعنوان "الشتات الأفريقي والتراث"، قدمته مجموعات موسيقية من أصول لاتينية، إضافة إلى عرض خاص من الفرقة الأيرلندية "آنام مور".

أما "اوركسترا شيكاغو للمغتربين"، فقد كان لها مسك الختام بتاريخ السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول في عرض امتد قرابة الساعة من الزمن، شارك فيه موسيقيون من بلدان وأصول مختلفة، جميعهم من المهاجرين المقيمين في الولايات المتحدة الأميركية. يتشارك قيادة "أوركسترا شيكاغو للمغتربين" كل من الموسيقيين ونيس زعرور، وهو مؤلف موسيقي وعازف عود فلسطيني-أميركي، وعازف الغيتار والمؤلف الموسيقي فريد حَق المولود لأب باكستاني وأم تشيلية.

تتنوّع خبرات كل من الفنانين، فخبرة زعرور تشمل موسيقى الشرق الأوسط وشمال وأفريقيا، وإيران، وأرمينيا، وتركيا، وأذربيجان وبلاد البلقان، وهو يعمل في الآن ذاته على قيادة أوركسترا الشرق الأوسط في جامعة شيكاغو، فيما نشأ حَق على أنماط موسيقية تنوّعت ما بين موسيقى أميركا اللاتينية وموسيقى الشرق الأقصى؛ وهو المعروف عالميا باحترافه الغيتار الكلاسيكي، كما احترافه لموسيقى الجاز التي تجمع ما بينه و بين زميله زعرور.

إلى جانب الجاز، التقى الموسيقيان على فلسفة واحدة جعلت الانسجام ما بينهما آنيا، وهي فلسفة تسعى إلى إيجاد منطقة وسطى جامعة بين كل العناصر الموجودة لدى كل من أعضاء الأوركسترا، بحيث تسمح بإبراز شخصيته الموسيقية بحسب جذورها، من دون المسّ بالشكل الموسيقي الأصلي للمقطوعات أو الأغنيات.

تضم الأوركسترا 20 موسيقيا من المقيمين في المدينة، قسم منهم ثابت، وقسم آخر سيشارك مداورة في العروض

"هذه الفلسفة هي بمثابة تصريح سياسي، وهي جزء من الحركة المناهضة للتفرقة العنصرية في أميركا"، يقول زعرور. يتابع: "فالولايات المتحدة تكتسب تفرّدها عالميا بسبب التنوع العرقي وتعدد الثقافات فيها، ما يسمح بتعدد وجهات النظر، وهذا ما نحاول تعزيزه موسيقيا من خلال الحفاظ على أصول كل قطعة موسيقية، وتشجيع اختلاف الأصوات في المجموعة لنحصل على مزيج متجانس مكوّن من كل لون موسيقي".

تضم أوركسترا شيكاغو للمغتربين عشرين موسيقيا من المقيمين في المدينة، قسم منهم ثابت، وقسم آخر سيشارك مداورة في العروض وذلك في محاولة لإشراك أكبر عدد ممكن من المهاجرين الموسيقيين. أما العرض المذكور؛ فقد ضم إلى جانب زعرور وحَق، عشرة من العازفات والعازفين هم خوان باستور من البيرو على الإيقاع، ويشاركه زميله الأميركي بول كوتون بايقاعات غرب أفريقية.

ومن الهند، ضم كل من هيتيش ماستر بالغناء والعزف على الهارمونيوم، وساراسواثي رانغاناتان عازفة على آلة الفينا الوترية، وريتشارد كريستيان إيقاعا على الطبلة هندية والكانغيرا، من مونغوليا يشارك تمير هارغانا بغناء الحنجرة والعزف على آلة موران خور أو كمان رأس الحصان، من الصين تزو-تزين ووه على آلة الرووان الوترية، والباكستانية-الأميركية صوفيا أودين على الكمان، كما شارك بالغناء المنفرد كل من الإيراني سام طاهري والنيجيرية اوغوتشي. ولم تقتصر مهام زعرور وحَق على برنامج العرض وقيادة المجموعة فقام الأول بالمشاركة على آلة العود والايقاع فيما شارك حَق بالعزف على الغيتار.

أمّا برنامج العرض فقد تنوّع ما بين المؤلفات الخاصة وأخرى معروفة أو شعبية، في جولة افتتحت بمؤلّف بعنوان "ماسالا مسلّم" وهي قطعة من تأليف كمال مسلّم وفريد حَق، تلتها أغنية إيرانية بعنوان "خوشه جين"، وهي أغنية عن حياة عمّال الحقول، ليتنقل البرنامج إلى قطعة صولو على آلة الرووان الصينية، تبعتها أغنية من هاييتي بعنوان "شكرا أيها الرب الطيب" شملت غناء بالفرنسية وراب بالإنكليزية. ثم كانت جولة صولو إيقاعات سبقت ميدلي لأغنيتين شعبيتين من مونغوليا، فيما كان الختام مع قطعة لونيس زعرور بعنوان "اجتياح".

الظهور الأول للأوركسترا كان عام 2004 بمبادرة من بلدية شيكاغو وبقيادة ويلي شوارتز، إلا أنها توقّفت بعد مدة لأسباب إنتاجية

الجدير بالذكر أن الظهور الأول للأوركسترا كان عام 2004 بمبادرة من بلدية شيكاغو وبقيادة ويلي شوارتز، إلا أنها توقّفت بعد مدة لأسباب إنتاجية، وهي تعود اليوم بدعوة للموسيقيين زعرور وحَق، لقيادة المجموعة الموسيقية الجديدة وفق رؤية عصرية تعزز مكانة المهاجرين في الولايات المتحدة الأميركية.

وإلى جانب التنوّع الموسيقي الغني في أوركسترا شيكاغو للمغتربين، هناك تفاوت في تجارب أعضائها كمهاجرين مقيمين في الولايات المتحدة، فهناك من هو حديث العهد في البلاد، مقابل من أتمّ عقودا من الزمن في المهجر، كما أن البعض منهم لا يحمل الجنسية الأميركية حتى.

في الفيديو الذي وثّق عرض السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول في "مركز إيبيفاني للفنون"، ظهر بعض العازفين واضعا الكمامة الطبية طوال فترة العزف. يعلّق زعرور على ذلك: "الالتزام بالكمامة كان بدافع وقائي ولكنه لفتة سياسية أيضا؛ إذ إن معظم المتعرّضين للإصابة بفيروس كوفيد 19 في الولايات المتحدة هم من المغتربين والمهاجرين، ذلك لأنهم يعملون في مهن أساسية لمتطلبات الحياة اليومية كمحلات السمانة والخدمات الصحية. فالجالية المهاجرة أو المغتربة؛ وبالرغم من تهميشها، إلا أنها جالية معطاءة جدا على الصعد الاجتماعية والثقافية والعلمية".

ستتعاون الأوركسترا مع عدد من المؤسسات الثقافية عبر إعداد برامج تعليمية من خلال ورشات موسيقية أو عبر خلق مقرر تعليمي خاص

قبل أن يلتقي أعضاء الأوركسترا للمرة الأولى، كان أمام الفنانين حَق وزعرور ثلاثة أسابيع فقط لإعداد البرنامج الذي تمّ عبر التواصل الهاتفي ثم بلقاء على تطبيق زووم جمع بقية أعضاء الأوركسترا قبيل اللقاء التحضيري على أرض الواقع. وحول ذلك، يقول حَق في فيديو العرض إن اللقاء الفعلي للمجموعة كاملة جرى قبل أربع وعشرين ساعة فقط من موعد التصوير، وفق جلسة موسيقية امتدت على أربع ساعات اجتمع فيها الموسيقيون الاثنا عشر وعملوا معا على تجهيز مضمون العرض.

يعلّق زعرور: "لقد كان اللقاء الأول بمثابة السحر. كموسيقيين في مهنتنا شعرنا للمرة الأولى أننا في جوّ من الألفة والراحة يحتوينا بطواعية ومرونة، على عكس قسوة الموسيقى الغربية. لقد كنا حقا نشعر بالانتماء". تخطط "أوركسترا شيكاغو للمغتربين" اليوم لجولة عروض منظمة وتسجيلات، إضافة لإقامات فنية ومؤلفات جديدة.

وبالتوازي، ستتعاون الأوركسترا مع عدد من المؤسسات الثقافية والجامعات عبر إعداد برامج تعليمية من خلال ورشات عمل موسيقية أو عبر خلق مقرر تعليمي خاص ضمن المناهج الموسيقية المعتمدة. هذا الانتشار، بحسب زعرور، ضروري إذ إن "تأثير الأوركسترا بات أقوى في ظل كل ما يحدث حولنا ولذلك لا بد من توسيع هذه التجربة وإشراك أكبر عدد من الناس فيها".

أغلب التعليقات حول العرض الأول لأوركسترا شيكاغو للمغتربين، كان ذا طابع عاطفي، وصف العرض بالتجربة الوجدانية المؤثرة عوضاً عن الاهتمام بالجانب التقني للعرض. ويلخّص زعرور هذا الأمر بقوله إن ظهور الأوركسترا في هذه الفترة المظلمة من مسار العالم، كأنما أعطى الناس كنزًا، ولا سيما للمهاجرين منهم.

المساهمون