قدمت منصة "أمازون برايم" مسلسل "أنا، كريستيان إف."، المأخوذ عن السيرة الذاتية "نحن الأطفال من محطة حديقة الحيوان" الألمانية المثيرة للجدل. تدور أحداث العمل حول الجانب المظلم من مدينة برلين في فترة السبعينيات، وتعكس ثقافة الشباب وقضية إدمان المخدرات.
يستعرض المسلسل قصة حياة مراهقة في الثالثة عشرة من عمرها، تقع ضحية المخدرات، وتعاني من آثارها السلبية بين عامي 1975 و1977 في برلين الغربية. العمل هو نتيجة تحقيق للصحافيين، كاي هيرمان وهورست ريك، مع كريستيان فيلشيرينو البالغة خمسة عشر عاماً في هامبورغ في 1978. ومع تأثر الصحافيين بقصة كريستيان إف. تحول التحقيق إلى كتاب أصبح من أكثر الكتب مبيعاً عند صدوره، إذ ترجم إلى 18 لغة، وبيعت 5 ملايين نسخة منه في ألمانيا عام 2013، حتى أن المدارس فرضه كقراءة إجبارية.
حُوّل العمل إلى فيلم في 1981 من إخراج أولي إيدل، ومن تمثيل ناتجا برونكهورست في دور كريستيان إف، وشارك مطرب الروك ديفيد بووي بشخصه. ويأتي حضور بووي لشعبيته بين الشباب في تلك الفترة، ولكون كثير من المراهقين قد أقدموا على تعاطي المخدرات في حفلاته. أثار الفيلم الجدل عند صدوره، فقد رأى البعض أنه يجعل من مدمني المخدرات قدوة ثورية للشباب. في المقابل، تأتي أهمية العمل لتسليطه الضوء على قضية الإدمان وعلى الحاجة لعدم تجاهل الشباب الواقعين تحت تأثيره.
في فترة السبعينيات، وفي ظل انقسام برلين إلى مدينة شرقية وأخرى غربية في فترة الحرب الباردة، انتشرت ثقافة الهيرويين والدعارة بين الشباب، وقد أدت إلى حوادث مأساوية وإلى وفاة الكثير من الشباب نتيجة جرعات زائدة. في المقابل، برزت برلين الغربية كوجهة ثقافية وكمعلم للثقافة البديلة، وجذبت العديد من الفنانين، ومنهم ديفيد بووي. وقد ألهمت المدينة المنقسمة على ذاتها، ديفيد بووي المرهق من أجواء الولايات المتحدة، والراغب في اكتشاف بدائل للحياة هناك حيث قام بتقديم بعض من أهم أعماله الملهمة في برلين.
ورغم الازدهار الاقتصادي في برلين، لم تتغير الظروف المعيشية، وخاصة للشباب الذين عانوا من البطالة والتفكك الأسري ومن سوء النظام التعليمي. أصبحت المدارس بؤرة للتأثير السلبي، فيهمل فيها الطلاب تعليمهم ويجتذبهم السلوك الإدماني بتشجيع من زملائهم. وضمن هذه الظروف، نشأ جيل يشعر بالاغتراب عن محيطه في ظل ظروف قاسية دفعته إلى الإدمان، وإلى الاعتماد على تخدير ألمه عن طريق المخدرات.
وعلى هذه الخلفية التاريخية، تقدم "أمازون برايم" قصة كريستيان إف. الباحثة عن القبول بين زملائها، والراغبة في عيش تجارب تخرجها من واقعها الأسري السلبي، ضمن أجواء الخلافات والصراع بين والديها. تجتذب كريستيان مجموعة من الأصدقاء الذين يرتادون نوادي الرقص الصاخبة، ويتعاطون المخدرات، وتقع تحت تأثيرهم السلبي. تتردى حياة الشابة المرحة والفضولية وتصبح خاضعة لاعتماديتها التي تدفعها إلى الدعارة لتأمين المال لشراء احتياجها من الهيرويين.
سعت مخرجة العمل، أنيت هس، والقائمون عليه إلى الحفاظ على روح فترة السبعينيات، ومنها عدم امتلاك المراهقين لوسائل الاتصال الحديثة. كما يحمل العمل روح الجموح والتمرد والتوتر القلق الذي اتسمت به فترة السبعينيات. لكن، يصبح إيقاع المسلسل بطيئاً، حين تتكرر الفكرة الرئيسية التي تعكس معاناة المراهقين مع الإدمان ومشاهد تناول الهيرويين في حمامات المدينة القميئة والمتسخة. وما يخفف هذا التكرار، إبداع الممثلين في الأداء.
نجح العمل في تقديم وجوه شابة واعدة، ساهم أداؤها برفع أسهمه، ومن هذه الوجوه ليا دريندا بشخصية بابسي، ولينا أورزيندوفسكي بشخصية ستيلا. وقد برزت الممثلة الألمانية جانا ماكينون بأداء قوي للشخصية الرئيسية، وساهم أداؤها برسم ملامح شخصية المراهقة الحيوية الذكية، وبتوضيح صراعها ضمن منظومة عنيفة ضد الشباب. وبهذا، تبدو كريستيان كأي مراهق يبحث عن الحب والاهتمام، ما يساهم بدفع المشاهد للتعاطف معها، رغم أن فكرة الإدمان وثقافة النوادي الليلية العنيفة قد تبدو غريبة لغالبية من المراهقين في وقتنا.
يتجنب العمل التنظير وتقصي أسباب هذه الظاهرة، ويركز على أحلام الشباب وخسائرهم وعواطفهم وعلى قصصهم الإنسانية. يسلط العمل الضوء على منظومة تسببت في خسارة الشباب لمستقبلهم، ويعكس أثر النظام الاقتصادي والسياسي على الشخصي والمعاش. لذا تصبح قصة هذه المراهقة هي قصة مدينة وتاريخ مرحلة. يدفع مسلسل "أنا، كريستيان إف."، المشاهد إلى تجنب الأحكام المسبقة، والتمعن في معاناة الآخر من خلال قراءة التاريخ، والتعاطي مع معطياته بعيون الحاضر، وبالتالي من دون تحيز.