"آل روسيليني" وثقل الاسم: توليفٌ مُتقن وحبّ أكيد

26 ابريل 2021
إيزابيلا روسيليني: استثناء سينمائي وحيد في العائلة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

"أنا أيضاً اسمي روسيليني، لكنّي لستُ جميلاً ولا غنيّاً ولا مشهوراً"، يقول أليساندرو روسيليني، حفيدُ إحدى دعائم الفن السابع في العالم، وعميد سينما الواقعية الإيطالية الجديدة. ليس سهلاً أنْ تكون مُنتمياً إلى عائلةٍ، لها هذا القدر من الشهرة والمعرفة. لذا، قرّر أليساندرو تحقيق فيلم عنها.

"آل روسيليني" (2020) ـ المعروض في قسم "زاوية واسعة"، في الدورة الـ52 (15 ـ 25 إبريل/ نيسان 2021) لـ"مهرجان رؤى الواقع ـ نيون (سويسرا)" ـ يُبدي، بصراحة متناهية ومُحبّة، ظاهرة تأثير وجود معلم كبير من معالم السينما العالمية على عائلةٍ، يُنتظر من أفرادها دائماً أنْ يحملوا ولو ذرّة من عبقرية المخرج الكبير.

روبرتو روسيليني "أسطورة". صعبٌ العيش مع الأساطير، وبعدها، في ظلّها أو بالافتراق عنها، بنسيانها أو بالاستفادة من أسمائها. فهل كان هذا المخرج واعياً بمدى تأثيره على حياة أفراد عائلته، بشخصيّته القوية، وشهرته؟ بهذا الإرث الصعب الذي أعطاه لهم؟ كيف تعايشوا معه؟ يُحقِّق أليساندرو فيلماً حميمياً عن عائلة، وعن أسرارها وتعقيداتها وخصوماتها ولقاءاتها. عائلة موحّدة ومتفرّقة في آن واحد. إيطالية العرّاب والروح، ومتنوّعة الأعراق والانتماءات. فيلم رحلة شخصية، وحقائق عن عائلةٍ لم يسبق أنْ شاركتها مع أحدٍ، يستعين فيه بشهاداتٍ لأبناء روسيليني، وأرشيف من أفلامٍ مُصوّرة بكاميرا صغيرة، كانت تستخدمها إنغريد برغمان.

الفيلم مهمٌّ للحفيد أليساندرو، ثمرة زواج الابن الأكبر للمخرج المشهور براقصة أفروأميركية. صغيراً، لم يجد مكانه في العائلة. عند بلوغه 13 عاماً، توفيّ جدّه. اليوم، يبحث عن العائلة، وعن هذا الشعور بالأمان، الذي تحيط به أفرادها. "هي التي تحبّك، سواء كنت أبيض أم أسودَ، ومهما ارتكبْتَ من أخطاء". في خمسينيات عمره، وبعد خروجه من فترة إدمان، قرّر العودة إلى العائلة، واللجوء إلى خالاته وأخواله من زوجات روسيليني الثلاث، طارحاً عليهم أسئلته، بهدف تشكيل تاريخ أسرته، وقبل أي شيء آخر تشكيل تاريخه. يفعل هذا وهو مسلّح بحسّ طريف، ومشاعر صادقة، وندم ظاهر.

بعد احتداد موقفٍ، أو طرح سؤال مربك، يحاول الخروج من مأساويّته، وتحويل المسار بشيءٍ من طرافة أو حبّ أو حنان. اختار أليساندرو استدعاء شخصية روسيليني لا سينماه، فالوثائقيّ هذا يُمرّر مقاطع قليلة من أفلامه، المرتبطة بسيرته وعلاقاته العائلية. إخراجياً، لجأ إلى أسلوب الراوي، سارداً الحدث بنفسه، واختار أنْ يكون شخصية في الفيلم، تقود مسيرته وتعلّق عليها. اعتمد الحوار المُباشر مع أفراد العائلة، ومواجهتهم بأسئلته وتساؤلاته. لهذا، تعدّدت الأمكنة: إيطاليا والسويد ونيويورك وقطر. كما اختار أسلوباً يموضعه في الداخل، ليؤدّي دوره الأساسي، ويخلق تفاعلاً وتعاطفاً أفضل مع مُحدّثه، ومع المُشاهد. توفّق بهذا، بمساعدة توليفٍ متقن، عرف التركيز على الأساسي من حوارات كانت لا بُدّ طويلة.

روبرتو روسيليني (1906 ـ 1977)، الذي ترك بصماته العبقرية في الفنّ السابع، كان يحبّ النساء. رسمياً، تزوّج ثلاث مرّات. أما بشكلٍ غير رسميّ، فلا عدد لهنّ. كانت له حساسية خاصة تجاه العلاقات التي تدوم. بتطرّقه إلى زيجات جدّه، يستعين أليساندرو بالطريقة الإيطالية، الحافلة بالظرافة والحيوية والخلط. يُدرك مدى التشويش الذي يُلحقه بمُشاهده، من تعقيدات علاقات جدّه، فينتقي لقاءً تلفزيونياً قديماً معه، يجيب فيه بصراحة. هكذا كانت طريقة المخرج في دعم أقواله، فحين يريد التعريف بشخصية جدّه "الملوكية" في العائلة مثلاً، يختار مقطعاً من "استيلاء لويس الرابع عشر على الحكم" (1966)، فروسيليني كان ملكاً هو أيضاً، وعائلته الرعيّة. يسترسل أليساندرو في التعريف بشخصية جدّه، من خلال علاقاته وسلوكه في العائلة. أشهر زوجاته، إنغريد برغمان، نجمةٌ في هوليوود. حين اشتهر، طلبَتْ منه فيلماً. طبعاً، لم يكن يعرفها، كما تقول، فهو "يحبّ السينما، لكنّه لم يكن يحبّ سينما الآخرين".

 

 

علاقات روسيليني تُظهر شخصية إيطالية، تجسّد الفرق بين الشمال الأوروبي وجنوبه. لم يطقْ أنْ يبقى أولاده من برغمان مع أمّهم بعد طلاقهما، وأنْ ينشأوا على "الأخلاقية السويدية"، ففصلهم عنها. ومع أنّه أبٌ حاضرٌ فقط حين تقديم الهدايا، كان دوره تقليدياً بالكامل. أب غائب حاضر، لكنّ الجميع متعلّقون به، ومأخوذون بشخصيّته المرحة والمُحبّبة، كما يُبديها الفيلم. عندما يحاول روبرتينو، ابنه الوسيم من إنغريد برغمان، التحدّث معه عن مشاكله، كان يردعه فوراً: "لا خبرني عن مشاكلك، فلديّ منها ما يكفي". روبرتينو مثلٌ لمعاناة ابنٍ يحمل اسم روسيليني، فمع اسم كهذا "لا يُمكنك أنْ تكون ساقياً في مقهى"، وكلّ ما يحقّ له أنْ يكون "عبقرياً". بنظر والده، كان روبرتينو وسيماً إلى درجة يصعب معها أنْ يكون ذكياً. حين رأى أمه تحترق في مشهدٍ، كره السينما منذ طفولته، ما أشعره بالذنب تجاه العائلة. روسيليني وزّع المهن على أبنائه، فكان الإخراج من نصيب لورنزو، ابنه الأكبر من زوجته الأولى، ووالد أليساندرو. لكنّ لورنزو لم يستمرّ، ولم يُنجز إلا فيلماً واحداً.

معاناة أولاد المشاهير تنسحب على الأخت التوأم لإيزابيلا، التي تعاني "ثقلَ" اسم العائلة منذ الطفولة، وشعوراً بعدم الأمان، وبقسوة الناس. تعترف لأليساندرو: "كنتُ أشعر أنّي ارتكبْتُ خطأ ما، لأنّي لم أكن أشبه أمي". ايزابيلا جميلة، تُشبه أمّها. سبعة أولاد لروسيليني، تُركوا غالبا لشأنهم. لا أحد يعتني بهم، كما يجب الاعتناء بالأطفال. لكلّ واحد منهم معاناته من اسمٍ يخشون دائماً من عدم قدرتهم على حمله. يكشف الفيلم قصص أبناء آخرين لروسيليني، من زوجة هندية، منهم رافائيلا، التي اعتنقت الإسلام، وتعيش في قطر.

إيزابيلا روسيليني استثناء. إنّها الوحيدة التي عملت في السينما، ونجحت واغتنت هي وأبناؤها. الوحيدة التي "انتقل إليها الحكم، لكنّها لا تريد أنْ تلعب الدور، مكتفية بتذكير العائلة به، عبر كرمها". لهذا، كانت محطّ استغلال مادي وتحايل وجحود من البعض، بينهم أليساندرو، الذي ـ في لحظات حرجة في الفيلم ـ اعترف بهذا أمامها بخجل، مُدركاً كم كان فظيعاً معها.

الحياة تُعطي كلّ شيء لهؤلاء، لكنْ أين السعادة؟ فيلم مؤثّر، سعى إلى التخلّص من مأساوية الحياة، ومن مَشاهد مؤلمة عن مصير بعض شخصياته، بسردٍ يُشبه الحياة، بكلّ ما فيها من لحظات فرح (مرة) وترح (مرات). محاولات مخرجه حثيثةٌ للتعبير، قولاً وفعلاً، عن الحبّ. هذا حدث في مشهد اللقاء الأخير، مع اجتماع الأولاد والأحفاد مجدّداً في ما بينهم، لكنْ ليس بسبب مأتمٍ، كما يحصل عادة.

المساهمون