برمجة عادية في "لا موسترا 2019": بولانسكي وفونيكس يتألّقان

04 سبتمبر 2019
رومان بولانسكي: جماليات استعادة قصّة معروفة (فيسبوك)
+ الخط -
لغاية الآن، عُرض أكثر من نصف أفلام المسابقة الرسمية (21 فيلمًا)، في الدورة الـ76 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (لا موسترا)". المفاجأة كامنةٌ في أنّ المسابقة هذه، رغم الأسماء الكبيرة فيها، لم تكن على النحو المتوقّع، أقلّه إلى الآن، فخيّبت آمالاً كثيرة. البارز فقط، الذي يُمكن وصفه بـ"تحفة سينمائية"، فيلم "إنّي أتّهم" للبولندي الفرنسي رومان بولانسكي، الذي يصعب خروجه من دون جائزة، إلّا إذا "تعمّدت" اللجنة ذلك، بسبب ماضي بولانسكي، وملاحقته قضائيًا. 

هذا غير مُستبعد. رئيسة لجنة التحكيم، الأرجنتينية لوكريسيا مارتيل، أعلنت أنّها لن تشاهد الفيلم، قبل تراجعها عن تصريحها هذا، قائلةً إنّ كلامها "فُهِم" بشكلٍ خاطئ، فهي تقصد أنّه عند التصويت عليه ومنحه جائزة، لن تتدخّل أو تحضر.

بعيدًا عما ستؤول إليه الأمور، فإنّ مخرجًا بقامة رومان بولانسكي غير محتاج إلى جوائز لينال تقديرًا وإعجابًا، وأيضًا "إنّي أتهم"، الذي تمكّن فيه من أنْ يُعيد إلى الأذهان روائعه التاريخية، أو المأخوذة عن أعمالٍ أدبية، كـ"ماكبث" (1971)، و"تيس" (1979)، و"أوليفر تويست" (2005).

ظنّ كثيرون أن المخرج (86 عامًا)، لن يكون لديه ما يقدّمه، خصوصًا أنّه اختار هذه المرّة قصّة لا تحمل جديدًا. فقضية الضابط الفرنسي ألفريد درايفوس لم تعد مجهولة، ولا تحتاج إلى تسليط ضوء، أو إعادة معالجة، أو تقديم، نظرًا لاستهلاكها. لكن بولانسكي خيَّب تلك الظنون، معتمدّا على رواية للكاتب والصحافي البريطاني روبرت هاريس، صادرة عام 2013، بعنوان "ضابط وجاسوس"، اشترك بولانسكي معه في كتابة السيناريو، واحتفظ بعنوان الكتاب عنوانًا إنكليزيًا لفيلمه، بينما "إنّي أتّهم" هو العنوان الفرنسي، وعنوان المقالة التي كتبها الأديب الفرنسي إيميل زولا، ونشرتها الصحيفة اليومية الفرنسية L’Aurore، في 13 يناير/ كانون الثاني 1898، مُدافعًا فيها عن درايفوس، بعد ظهور الحقائق، ووضوح براءة الضابط.

بحرفية سينمائية، يضع الفيلم مشاهديه في أجواء باريس عام 1894، بشوارعها وحاراتها الضيّقة ومبانيها التاريخية، التي كانت تعيش خوفًا من الأعداء، خصوصًا الألمان. دول تتجسّس على دول عبر سفاراتها، أو بفضل جواسيس محترفين. تهمة الخيانة شائعة. أجهزة المخابرات والمراقبة في طور التشكّل والنموّ والتغلغل في المجتمع. الجميع مشتبه بهم. العداء ضد اليهود علنيّ ومباشر. لذا، ليس صدفة أن يكون الضابط الفرنسي اليهودي، نظرًا إلى ملابسات عديدة، موضع اتّهام وإدانة ونفي.

في 120 دقيقة، هناك استمتاع بقصّة درايفوس، وقضيّته وتطوراتها. "يتجوّل" الفيلم داخل أورقة الجيش والحكومة والبرلمان في فرنسا، كاشفًا جهود الضابط ورئيس جهاز المخابرات الجديد جورج بيكار (أداء رائع للغاية لجان دو جاردان).

إلى ذلك، أدهش "جوكر"، للأميركي تود فيليبس، الجميع، ولعلّه أكثر فيلم نال تصفيق النقّاد والصحافيين. رغم عنفه وكثرة الدماء والرصاص في مَشَاهد مختلفة، إلّا أنّ هذا كلّه موضوع في سياق فني ودرامي مُقنع للغاية، ومُكثّف. الأهم من ذلك، أنّه بالغ الإنسانية، وأداء يواكين فونيكس "استثنائي"، علمًا أنّ روبرت دي نيرو شاركه البطولة.

آرثر فْلِكْ، أو الجوكر، مهرّج من مهرّجي الشوارع. بالغ الطيبة. وحيدٌ إلا من أمّ يرعاها. حالته النفسية غير متزنة، لذا فهو يتلقّى علاجًا. منبوذٌ من المجتمع. لا علاقات يُقيمها مع أحد، ولا أصدقاء لديه ولا امرأة معه. همّه أنْ يصبح ذات يوم كوميديًا أو مُقدّم فقرات ضاحكة في أشهر الحانات، أو صاحب برنامج مشهور. يتعرّض لاعتداء وضرب وتحرّش وعنف، إما صدفة، أو نتيجة مهنته، أو لرسمه وجهًا ما بالألوان، أو حتّى بسبب الضحك الذي لا يُفارقه. تدريجيًا وبهدوء، يتحوّل آرثر إلى نقيض ما هو عليه، من دون أدنى افتعال. مع تحوّله، لا يتورّع عن أخذ ثأره من الجميع، بدءًا من زملاء العمل، وليس انتهاءً بالأمّ.

إلى فيلمي "إنّي أتّهم"، و"الجوكر"، يُمكن إضافة "عمدة ريوني سانيتا" للإيطالي ماريو مارتوني. هذا فيلم متناقض تمامًا مع فيلمه السابق "ثورة كابري"، الذي تدور أحداثه في القرون الوسطى، ويتناول التمرّد والفنّ والحرية، عبر شبابٍ يُقرّرون العيش بحرية وتحرّر في جزيرة منعزلة، ليصنعوا فنًّا. وذلك في أجواء شاعرية، وتصوير يشبه اللوحات الفنية لتلك الفترة.

أما "عمدة ريوني سانيتا"، فمأخوذ عن مسرحية لإدواردو فيليبو بالعنوان نفسه، صادرة عام 1960: نابولي، معقل المافيا، حيث إطلاق الرصاص وممارسة العنف والتحرّش وإراقة الدماء تبدأ كلّها منذ اللقطات الأولى. جمال الفيلم أنّه ليس مُستهلكًا، ولا يغرق في كليشيهات معروفة عن المافيا، التي تظهر بوجه ملائكي طيّب، عبر العمدة أنتونيو بارّاكانو (أداء رائع لفرانشيسكو دي ليفا)، الذي يفصل بالعدل بين الجميع في منطقة ريوني سانيتا، والذي يرفض الانتقام ممن طعنه، كي لا تشتعل المنطقة، لكن أولاده يقتلون الطاعن، فتشتعل الحرب.
لم يأتِ "إما"، للتشيلي بابلو لارين، على النحو المُنتظر، رغم جدّية الدراما والعناصر الإخراجية، المتداخلة مع موسيقى حديثة ورقص إيقاعي.

هذا ينطبق أيضًا على "المغسلة"، للأميركي ستيفن سودربرغ، الذي له طابع استقصائيّ، وإنْ على نحو طريف وهوليوودي جذّاب. مأخوذًا عن وقائع حقيقية، يبحث الفيلم في الأساليب الخفيّة لغسل الأموال والتهرّب الضريبي والرشوة، وهذا كلّه معروف بـ"أوراق بنما"، التي كشفت علاقة هذا كلّه بشبكة محامين ومحاسبين ومصرفيين متورّطين في تسهيل الأمور. فضح هذا ناتجٌ من حدث عارض، إذْ تعرّض قارب، كانت تستقله إيلِن مارتن (ميريل ستريب) للغرق، ما أدّى إلى وفاة زوجها. وعند بحثها عن التعويض والتأمين، تكتشف أهوالاً.
دلالات
المساهمون