الرقص في السينما... خطوات خارج إيقاع التانغو

25 يوليو 2019
أثناء تصوير فيلم "ذا باند ويغان" (Getty)
+ الخط -
في فيلم المراهقة A Walk to Remember عام 1999، كما العديد من الأفلام التي تتطّلب مشاهد رومانسية راقصة، تطلُب ماندي مور من شين ويست أن يرقص معها في المطعم على إيقاع موسيقى هادئة. لا نلحظ من الرقصة إلا تناوُس ثقل الجسد ما بين الساق اليمنى واليسرى بالتوازي مع الشريك. المشهد نفسه يتكرر في أفلام عديدة. أغنية أو موسيقى هادئة في مطعم أو حفل زفاف، يتشابك الرجال بشريكاتهم، ليتمايلوا بالآلية الغريبة ذاتها والبعيدة عن الرقصات الأصيلة التي نسخت منها كالـ"تانغو" و"سالسا" و"تشاتشا" و"فالس" و"سوينغ" و"رومبا" و"فوكستروت" و"مامبو".. وغيرها.

ومع هذا الهجين غير الجمالي، انتشرت فكرة "السلو دانس"، وصدّرت إلينا لتصبح جزءاً من حفلات الأفراح العربية، من دون وجود حقيقي لها في المجتمع الغربي. حتى أنّ منظمي الأفراح يقومون بتدريس الشريكين قبل زفافهما رقصة "السلو" التي في الغالب ما تكون مزيجاً من بعض الحركات المأخوذة من رقصات متعددة، كـ "الرومبا" و"المارينغو"، من دون التفات حقيقي إلى التقنية أو الإيقاع، كأن يرقصا على نسخة مشوهة من الفالس على أنغام أغنية لحسين الجسمي. هذا بالطبع لا يهم إن استطاع الشريكان الاستمتاع بذلك، إذ لا يبدو الأمر هجيناً للراقصين والمتفرجين، ويحقق الغاية المنشودة؛ "رقصة السلو".



الرقصات الأصيلة حاضرة بالطبع في أفلام هوليوود على اختلاف تصنيفاتها. وإن كان لهذا أثره على انتشار بعض الرقصات عالمياً، إلا أنه ساهم في نشر صورة مشوهة بإخراجه لمشاهد الرقص بشكل غير احترافي في الأفلام غير الراقصة، والتي تتطلب شخصياتها معرفة بالرقص تبعاً للسيناريو. هذه "الإساءة" لا تعود فقط على الرقص، وإنما أيضاً على تاريخ بعض الرقصات التي وُلدت في المجتمعات، وتفاعلت مع كل تفاصيل الحياة، من ثورات وحراكات مناهضة للعنصرية ومواسم الزراعة والحصاد والمعامل. وتطورت كل رقصة بتطور الحياة المدنية الجديدة في القرن الفائت، أو سُرِقَت لتصبح بعد ذلك رقصة بلاط، بعد أن كانت رقصة فلاحين، كما حدث مع الفالس، ما دفع إلى موتها، إذ ظلَّت حبيسة مدارس الرقص، ولا تحظى بأي شعبية أو احتفاليات جماهيرية، واختفت حتى من مشاهد "هوليوود"، بعد أن استُخدمت بشكل جميل مع تغييرات فرضها تصميم الرقصة والموسيقى، كما نشاهد في The Band Wagon عام 1953 رقصة تجمع بين فريد أستير وسيد تشاريس، والتي كان طولها عائقاً، فلم ترتدِ الكعب أو حذاء الرقص في هذا المشهد.



لا يزال مشهد رقصة التانغو لـ آل باتشينو في فيلمه Scent of a Woman (1992 ينتشر في وسائل التواصل الاجتماعي على أنه واحد من أعظم مشاهد التانغو، إلا أننا إن أزلنا اسم آل باتشينو وهوليوود، فلن يبقى للرقصة أي سحر. يتحدث البعض عن أن آل باتشينو كان قام بعمل 230 مقابلة أداء لاختيار شريكته في هذه الرقصة. عند البحث، لم نجد أي مرجع لهذه المعلومة، بل نجد ما يدعو إلى مزيد من الاستغراب؛ إذ قالت غابرييل أنور، بطلة مشهد الرقص، إنّها بعد أسابيع من تعلم التانغو لم تتدرب على الإطلاق مع آل باتشينو، واكتفوا بيومين قبل التصوير. كان رأي باتشينو في ذلك أنه يريد الحفاظ على نضارة وعفوية الرقصة!
هذا المشهد يحتوي على إشكاليات عديدة، تبدأ من الجملة التي اشتهرت من الفيلم وتؤخذ الآن كاقتباس دائم: "لا أخطاء في التانغو فهي ليست كالحياة، إن حصل وحدث خطأ، لا تعيري له أي اهتمام، فقط تابعي الرقص!". هذه الجملة صحيحة، ولكن بعد تعلّم قواعد الرقصة والحركة، ووضع الجسم وهيئته، وفصل حركة الجذع عن الساقين، وضرورة تمرين عضلات معينة في الجسم.

يُضاف إلى ذلك، أيضاً، القيادة والمتابعة ومراعاتهما (leading and following). عندها، يمكن الحركة من دون خطوات محددة، لكن بطرق واضحة لا تضع ضغطاً على الشريك ولا تخرّب الرقصة، والمعنى المخصوص بالتانغو هنا يعود إلى أن الأخير لا يحتاج إلى حركات محددة كي يحافظ الراقصون على إيقاع حركتهم مع الموسيقى، الأمر الذي لا يمكن في رقصات أخرى، كالسالسا والرومبا والتشاتشا والفالس.. إلخ.



بعد حديث آل باتشينو وبداية الرقص، فإنه يمزج ما بين نوعين من التانغو (تانغو البولروم، والتانغو الأرجنتيني). الأول، أي البولروم، مضبوط بإيقاع وحركات محددة. حركة الممثلين في المشهد لم تكن موفقة؛ لأن آل باتشينو يقود الرقصة كاسرًا الكثير من قواعد التانغو من دون خبرة أو إضافة جديدة، بل على العكس، يقوم بسحب أو جر شريكته، باندفاع، أو باستخدام اليدين. هذا يفرض هيمنة ذكورية لا تتقبلها النساء عادة في أمسيات التانغو (الميلونغا). هنا، يُشار إلى أن القيادة تعتمد على حركة الجذع من دون الساعدين بالمتابعة مع حركة الساقين، وبمعرفة وفهم الشريك والموسيقى، هذه الآلية تحتاج إلى وقت طويل قد يصل إلى عدة سنين كي يتعلمها. لذلك، يعد التانغو من الرقصات الشعبية الأصعب.



أما عن الحركات التي تبحث عن الإبهار، كرفع أو رمي الشريك، وجذبه ثم الانحناء معه/عليه، فهذه كثيراً ما تكون حركات بهلوانية إن لم تعتمد على تكنيك الرقصة. التانغو رقصة تعنى بالشريكين وعلاقتهما ببعضهما أكثر من كونها لمتعة المتفرج، لا توجد بهرجة هنا. إنها علاقة معقدة تبدأ بالنظر إلى الشريك وعدم مغادرته حتى تنتهي التاندا (أربع أغنيات)، ليعود كل شخص إلى مكانه. وكون آل باتشينو في هذا المشهد يرقص وهو ضرير، فإنّ ذلك ولا بد سينعكس على دهشة المتلقي، لكن في التانغو هذا الأمر ممكن عموماً، وإن كان في أغلب الأحوال المرأة أو التابع هو الضرير، يمكنك أن ترقص التانغو إن كنت ضريراً أو حتى إن كنت بساق واحدة.

من جهة أخرى، استطاع جون ترافولتا في مشاهد الرقص أن يتجنب هذه الإشكاليات إلى حد كبير، إذ أدّى رقصات لا تحتاج إلى كثير من المهارة، ويمكن تعلّمها في وقت قصير جداً، كرقصته في Saturday Night Fever (1977 ). بالرغم من ذلك، ظلت مصطنعة في العديد من الأماكن، خاصةً عندما يحمل شريكته، ويدور بها، ثم ينحني عليها، مع وقفات قد تكون لها حاجة في الفيلم، لكنها مضخمّة في الرقصة، على عكس شخصيته في Pulp Fiction (1994) التي لم تكن شخصية راقصة؛ فكانت الرقصة فيها حرية وخصوصية استطاعت أن تحفظ ذلك المشهد في الذاكرة.

على ما يبدو، كان يجري الاهتمام باحترافية مشاهد الرقصة في الأفلام الأقدم، كرقص ستيف مارتن النقري في Pennies From Heaven (1981) الذي أظهر فيه احترافية من حيث الحفاظ على هيئة الجسد وتمدده وتغيراته مع الإيقاع. هذه الاحترافية التي لا نجدها في أفلام متأخرة له كرقصه في All of Me (1984).

ومع ما أساءت له هوليوود تجاه الرقصات على اختلافها، إلا أنها ساهمت أيضاً في انتشار بعض الرقصات بشكل كبير، بل وإعادة إحيائها، كما حدث مع رقصة الليندي هوب التي ولدت في حي هارلم في نيويورك واستطاعت أن تجمع البيض والسود ليرقصوا معاً في نادٍ واحد، ثم انتشرت في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من البلدان، ومن ثم بدأت تنحسر. وبعد فيلم Swing Kids (1993) عادت هذه الرقصة لتنتشر في أنحاء العالم، حالها كحال العديد من الرقصات الحاضرة والمتطورة الآن أكثر من السابق كالتانغو والسالسا، مع موت بعض الرقصات شعبياً، كالفالس والرومبا والفوكستروت.
المساهمون