زكريا أحمد... "الآهات" تسأل وتُجيب بالهُزام

14 فبراير 2019
بات السرور كله... بيني وبينك متقسم (أرشيف)
+ الخط -
لم يرتبط اسم موسيقي عربي بالطرب الشرقي، كما ارتبط به اسم الشيخ زكريا أحمد (1896 - 1961) الذي تحل ذكرى رحيله اليوم. مجرّد ذكر اسم الرجل، يستدعي في أنفس الجماهير كل معاني "السلطنة" والأصالة، والكلاسيكية الخالصة العصية على رياح التغريب.

لكن، بالرغم من هذه الكلاسيكية المسيطرة، والتمسك بالجملة الشرقية الخالصة، فإن الشيخ زكريا أحمد معدود ضمن أهم مجددي الغناء والموسيقى في القرن العشرين، وقد طاولت تجديداته معظم قوالب الغناء.

وفي مسيرة تطور "الطقطوقة"، فإن زكريا أحمد هو المجدد الأكبر، إذ كان أول من فتح الباب لتلحين أغصان الطقطوقة بمقامات تختلف عن مقام المذهب، ولتتعدد المقامات بتعدد الأغصان؛ ما أكسب هذا القالب طاقات تعبيرية وتطريبية كبيرة، بعدما كان دائماً وعاءً للخفة والاستسهال، بل كان يتجنبه بعض كبار أعلام الطرب، كما نجد عند يوسف المنيلاوي.

في الفترة بين أواخر العشرينيات ومنتصف الأربعينيات، هيمن قالب المونولوج على غناء كبار المطربين والمطربات، بعد أن رسخه وأعلى بنيانه محمد القصبجي، عبر صوت أم كلثوم؛ فتاريخ القصبجي يمكن أن يوضع بين قوسين من هذا القالب، هما "إن كنت أسامح" عام 1928، و"رق الحبيب" عام 1941.

فرض القصبجي هذا القالب على المشهد الغنائي كله، وتنافس معه محمد عبد الوهاب بعدد من مونولوجاته التاريخية، ثم دخل رياض السنباطي على خط المنافسة منذ بواكيره مع أم كلثوم، فكان أول مونولوجاته لها "النوم يداعب عيون حبيبي".

المونولوج قالب خُلق للتعبير، وإظهار المشاعر، ويتأخر فيه الطرب خطوة أو أكثر لصالح الوجدان والتعبير عن خلجات النفس، لكن الشيخ زكريا عندما اقتحم هذا الميدان كان له رأي آخر؛ إذ قرر أن يبلغ بالطرب ذروته، وأن تظل الطاقة التعبيرية في أوجها، وتلك معادلة بالغة الصعوبة، تصدى لها شيخ الطرب في توازن مدهش، فحفر في ذاكرة العرب الطربية وعبر صوت أم كلثوم عدداً من مونولوجات الذرى، لعل من أشهرها "أهل الهوى" التي بقيت حتى يومنا هذا فاكهة مجالس الأنس والسماع، حيث تتفجر أفانين الطرب في كل أجزائها، ومع كل إعادة للفظة "يا ليل" التي جعلها زكريا أصلاً يقوم عليه دوران الأغنية كلها.

ومن تلك المونولوجات التاريخية، رسّخ زكريا في ذاكرة المستمعين لحنه الخالد "حلم"، التي استهل بيرم التونسي كلماتها بقوله: "حبيب قلبي وافاني في معاده.. ونول بعد ما طول بعاده"، ثم واصل تصعيده للمعاني ووصف سعادة اللقاء ونشوته، إلى أن تأتي الصدمة الكبرى في نهاية المونولوج: "حلم وطار مع الأحلام". في هذا العمل، بلغ زكريا بالتعبير مبلغاً صعب المنال، وبلغ أيضاً بالطرب ذروة لا تدرك.

لكننا بحاجة إلى وقفة مطولة، مع أحد أعجب ألحانه وأخطرها من هذا القالب الذي وضع في الأساس للتعبير، وأعني لحنه الكلثومي الفذ "الآهات"، فهذا المونولوج الفريد الغريب في فكرته وكلماته، تصدى فيه زكريا لمهمة شاقة؛ إذ إن النص، وكما يبدو من عنوانه، يتمركز حول لفظة "آه"، بها كان الاستهلال: "آه من لقاك في أول يوم"، وبها كان الختام "آه من رضاك وصدودك آه"، ومن الاستهلال إلى الختام تكررت لفظة آه نصياً في هذه الأبيات أو الشطرات كالآتي:

"آه من لقاك في أول يوم/ تقولي روحي آه/ يقولي قلبي آه/ يقولي عقلي آه آه/ آه من لقاك في أول يوم/ ومن رجايا وخوفي آه/ وآه لما بلغت آمالي/ آه من حلاوتها.. آه من قساوتها/ والطير يغني لي.. والموج يقول وياه آه/ يا دي النعيم اللي وجدناه.. واللي دخلناه آه/ وآه لما منعت ودادك/ آه ياللي أسست وهديت/ آه ياللي عمرت وأخليت/ آه ياللي أضحكت وأبكيت/ آه من رضاك وصدودك آه".

لكن هذه الآهات هي آهات النص المكتوب، ما يعني أنها ستتكرر تلحينياً لتكون بضع عشرات، ولا سيما مع أسلوب زكريا المعروف في التقطيع والتكرار، وهو ما يعني أيضاً أنها ستتجاوز المئة مع الغناء الكلثومي وإعاداته. وهذا الشكل من الآهات المتكررة فيه مخاطرة كبيرة، لأنها تُظهر الست وكأنها نائحة. وفي رواية لم تتأكد، أن بعض مستشاري أم كلثوم حذروها من غناء هذا المونولوج، وذهب بعضهم بهواجسه حد الهلع، فقال لها: "قد تكون فيها نهايتك".

استهل زكريا لحنه بمقام الهزام، واختار إيقاع الواحدة الكبيرة، وبدأ اللحن هادئاً رصيناً، تكسوه الرتابة الموحية بالإعياء والتعب، وكأن المحب المتألم يجد مشقة وعناء لإخراج شكواه وإظهار ما به من أسى ووجد.

وفي التسجيل التجاري الشائع للأغنية، تكرّر أم كلثوم لفظة آه في الاستهلال 24 مرة قبل أن تنتقل إلى الكلمة التالية في الشطرة. بعضها تكرارات تلحينية، وبعضها تكرار غنائي. لكن لا تطول هذه الأجواء، إذ إن اللحن يأخذ طريقه إلى التصعيد التدريجي، وهو تصعيد يوازن فيه زكريا بين التعبير والتطريب موازنة دقيقة، لا يطغى فيها جانب على الآخر.

ينهي زكريا أحمد المقطع الأول كله بمقام الهزام، ويستمر في نفس المقام مع دخوله إلى المقطع الثاني، ويلحن به السؤال: "وأقول لقلبي يا قلبي.. حبه يعادل حبي؟"، لتأتي الإجابة بمقام البياتي الشجي: "يقول لي قلبي آه"، ثم يعكس ما فعله؛ فيستمر مع البياتي في السؤال التالي: "وأرجع وأسأل عقلي.. هو الزمان هيروق لي؟"، لتأتي الإجابة بالهزام: "يقولي عقلي آه".. مع استمرار جمل الهزام المؤثرة الموجعة إلى نهاية المقطع.

ومن دون تغيير مقامي، يبدأ زكريا أحمد المقطع الثالث المكون من خمسة أبيات، أولها: "وآه لما بلغت آمالي"، ومع بداية البيت الرابع يأتي الانقلاب المقامي إلى البياتي، من أول قول بيرم: "بات السرور كله.. بيني وبينك متقسم"، ليصل زكريا بالمستمع إلى ذروة النشوة الطربية.

وكالعادة، يسمح لحن زكريا لأم كلثوم بتصرفات بالغة الجمال والبراعة، ولا نعني هنا بالتصرفات تلك الارتجالات التي يتوقف فيها اللحن تماماً، وإنما أعني التصرف أثناء السيرورة اللحنية، فتتمهل أم كلثوم مع غنة الميم في "متقسم"، وتكرر لفظة "ويانا" في قوله: "والزهر ويانا ينظر لنا ويتبسم"، ثم تتمهل أيضاً مع غنة "ويتبسم"، ثم تكمل: "والطير يغني لي.. والموج يقول وياه". فينتظر الجمهور أن تتم البيت: "والموج يقول وياه آه"، لكنها بعد "وياه" ترجع إلى "بات السرور كله" بأسلوب يتدفق طرباً أخاذاً يكاد يحرك الحجر الساكن، ويزداد هياج الجمهور مع كل إعادة. لتأتي القفلة بالعودة للهزام وبتكرار لفظة "آه" تكرارات رشيقة جداً وحماسية للغاية تنتهي بآه حراقة في غاية القوة والإطراب.

وفي المقطع الرابع والأخير، "وآه لما منعت ودادك"، ينطلق زكريا من مقام النهاوند، مع ملامسات سريعة للبياتي ثم الراست. وأيضاً، يسمح اللحن لأم كلثوم بالتفنن في عبارة "تعال شوف"، مع مواصلة الغناء المؤثر الذي يبلغ حد الحسرة والألم مع كلمات: "دا الأنس كان أنت.. والانسجام أنت.. والزهر كان أنت.. والابتسام".

وبعد توالي الجمل الهادئة، يتصاعد زكريا، ويدوي صوت أم كلثوم بالاستفهام المستنكر: "ما تقول لي فين أنت؟"، ثم تتوالى الشطرات القصيرة المبدوءة بلفظة آه: "آه ياللي أسست وهديت.. آه ياللي عمرت وأخليت.. آه ياللي أضحكت وأبكيت"، لتختم الأغنية بشطرة أولها آه وآخرها آه: "آه من رضاك وصدودك آه". وباستقرار واضح على الهزام.

شدت أم كلثوم باللحن لأول مرة في الأول من إبريل/نيسان 1943 في مسرح حديقة الأزبكية، فنجح نجاحاً مدوياً، وصارت الأغنية مطلباً جماهيرياً يفرضه رواد حفلات سيدة الغناء، التي بلغ صوتها في هذا التوقيت قمة نضجه وعنفوانه وسحره.

كررت أم كلثوم غناء الآهات في 18 محفلاً، لم يصلنا منها إلا ثلاثة تسجيلات. وأضاف زكريا أحمد إلى رصيده عملاً جديداً من خوالد التلحين العربي، وبالطبع أضاف إلى قالب المونولوج أسلوباً طبع حصرياً باسمه، وطريقة صارت تنسب إليه وحده، وجرأة على التعامل مع نص يتهيبه كل ملحن وكل مطرب.

لا تكاد إذاعاتنا العربية تبث "الآهات" لأن جودة تسجيلين من الثلاثة التي وصلتنا للأغنية أقل من المستوى الصالح للبث، وبالطبع لا تبثها الفضائيات لأنها أغنية قديمة ولدت قبل ميلاد التليفزيون المصري بعشرين عاماً، وجمهور الفضائيات لا يعرف من ألحان زكريا لأم كلثوم إلا "هو صحيح الهوى غلاب". واليوم تمر الذكرى الثامنة والخمسون لرحيل زكريا أحمد.. فليت آهاته الخالدة تجد لها مكاناً لائقاً.

المساهمون