"البابَوان": تمثيل ممتع وتوثيق سينمائي عادي لنزاعٍ عقائدي

25 ديسمبر 2019
جوناثان برايس وأنتوني هوبكنز: حرفية تمثيل (أنتونيو رودريغيز/Getty)
+ الخط -
يريد الكاردينال الأرجنتيني خورخي ماريو بيرغوغليو (1936) أنْ يستقيل من مسؤولياته الكنسية في بلده، فيزور الفاتيكان للقاء البابا بنديكتوس الـ16 لتقديم استقالته إليه شخصياً. يريد البابا الألمانيّ (جوزف راتزينغر، 1927) أنْ يُخبِر الكاردينال الأكثر تصدّياً له أمراً ما، فيدعوه إلى الفاتيكان، مُرسلاً إليه بطاقة سفر مؤرّخة بوقتٍ قصير قبل موعد حجز الكاردينال بطاقة سفر له إلى روما (صدفة أم قدر؟). يلتقي الرجلان، لكن البابا الألمانيّ يُراوغ أياماً قليلة، قبل أنْ يُعلِمه برغبته هو في الاستقالة، وفي أنّه يُمهِّد لاعتلاء الكاردينال سُدّة البابوية خلفاً له. البابا الألمانيّ يُقرّر التعرّف إلى الكاردينال الأرجنتيني أكثر، بعيداً عن مناخ "خلافاتهما"، في أيامٍ يُمضيانها معاً، بين "كاستل غوندولفو" (المقرّ الصيفي لبابا الكاثوليك) وحاضرة الفاتيكان، فتكون نقاشات وحوارات واعترافات ذاتية حميمة بين خصمين لدودين، تُظلِّلهما محبّة الله، الذي يصعب على البابا الألمانيّ أنْ يستمع إلى صوته (صوت الله)، كما يقول.

تلاعبٌ في الكلام، المبطّن والعلني، يُصوِّره البرازيلي فرناندو ميريليس (1955)، في "البابَوان" (2019 ـ المنصّة الأميركية "نتفليكس"، بدءاً من 20 ديسمبر/ كانون الأول 2019)، بشكلٍ مذهل، خصوصاً أنّه متعاونٌ مع أنتوني هوبكنز (1937) وجوناثان برايس (1947) لتأدية دوري البابا الألمانيّ والكاردينال الأرجنتيني. الصدام بينهما مُوزّع على شؤون كنسية ولاهوتية وإنسانية وثقافية. الخصام قويّ، فالأول محافظ يترأس دولة الفاتيكان (عاصمة الكثلكة) بعد سنين يُمضيها في البحث والدراسات والتأمّل، وفي تبوّؤ مراكز فكرية ولاهوتية؛ والثاني منخرطٌ في أعمالٍ ميدانية مع الناس، منذ مشاركة الكنيسة الكاثوليكية في أميركا اللاتينية في التصدّي للانقلابات العسكريّة المؤدّية إلى سلطات ديكتاتورية. الأول واقعٌ تحت ثقل ضغوط داخلية، متأتية من سطوة المصرف الفاتيكاني وأعماله المختلفة، ومن فضائح التحرّش الجنسيّ لرجال دين كاثوليك في مناصب مختلفة في دول وأبرشيات عديدة، ومن تسلّط الإدارة الفاتيكانية وابتعاد البابا عن الناس؛ والثاني يحمل تاريخاً من التحدّيات والالتباسات، منذ حكم الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين، وتاريخاً من الاشتغال اليومي مع الناس وللناس.
تفكيران يختلف أحدهما عن الآخر جذرياً. العلاقة بالاجتماع والتفكير الأخلاقي والإنساني، كما بكيفية إدارة شؤون دولة وكنيسة ورعايا، تتحكّم في النزاع بينهما. والفيلم، إذْ يختار تلك الأيام القليلة الفاصلة بين أول لقاء بينهما وانتخاب الكاردينال رئيساً للكنيسة الكاثوليكية ولدولة الفاتيكان، يغوص في سجالاتٍ مختصرة عن الله ودور الكنيسة والإيمان وآليات الحكم أيضاً، ويعتمد الـ"فلاش باك" مراراً في سرد مقتطفات من سيرة الكاردينال في بلده، في مقابل لقطات "فلاش باك" أقلّ تستعيد محطات من سيرة البابا بنديكتوس. لقطات عديدة مرتبطة بانتخابين: أولهما عائدٌ إلى 19 إبريل/ نيسان 2005 (انتخاب جوزف راتزينغر البابا الـ265 في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية)، وثانيهما إلى 13 مارس/ آذار 2013 (انتخاب أسقف أبرشية بيونس أيريس البابا الـ266)، وانتظار المؤمنين في الساحة الكبيرة للفاتيكان، إلى جانب إعلاميين من مختلف أنحاء العالم.

رغم الصدام الكبير بينهما، يُظهر الكاردينال تواضعاً كبيراً في علاقته بكلّ من يلتقيه، فينتبه البابا إلى أنّ الجميع يُحبّه منذ اللحظة الأولى. ينفضّ، وإنْ بصمتٍ، إزاء اتّهام شابّ في مقهى، يلتقيه صدفة أثناء مشاهدتهما مباراة كرة قدم (الكاردينال مُغرم بهذه الرياضة، ومشجّع متحمِّس بشدّة للمنتخب الأرجنتيني)، يقول (الاتّهام) بنازية البابا (هناك معطيات تُفيد بأنّ راتزينغر منضمّ إلى الشبيبة الهتلرية، زمن صعود النازية). في هذا الإطار، يقول ميريليس: "أعتقد أنّ الصحافةَ مبتكرةُ صورة الـ"نازيّ" عنه، وهذا غير صحيح. إنّه غير مختلف كثيراً عن البابا فرنسوا، في الواقع" (تصريح لـ"وكالة فرانس برس"، منشور في "لا برس"، في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019). يُضيف، في التصريح نفسه، أنّه في بداية العمل على تنفيذ المشروع، يعتبر بنديكتوس "البابا السيئ"، وفرنسوا "البابا اللطيف". لكن التقدّم في عملية التصوير يُعرِّف المخرج أكثر فأكثر على البابا الألمانيّ، ما يُحدث فيه تغييراً إزاءه، خصوصاً بعد قراءة كتابات له، والاستماع إلى بعض مواعظه: "إنّه مُثيرٌ للاهتمام".
هناك ما يشي بسينما وثائقية، يتخلّلها نَفَسٌ سرديّ. فالتوثيق متمثّل بهذا الكمّ الهائل من المعطيات التي تحيل إلى وقائع متداولة، خصوصاً بالنسبة إلى سيرتي البابا والكاردينال، قبل أنْ يتبوّأ كلّ واحد منهما مناصبه الكنسية العليا، وأثناء تولّيهما تلك المناصب. أما محاوراتهما الطويلة، الحاصلة بينهما بعيداً عن الجميع، فمنبثقة من معطياتٍ معروفة، تتعلّق بتفكيرٍ كلّ واحد منهما، وبهواجسه الثقافية واللاهوتية والكنسية والسياسية، وبكيفية تعامله مع الآخر، وبرؤيتهما المتناقضة كلّياً بخصوص مسائل جوهرية في الحياة والإيمان والحبّ والعلاقات بين الأفراد.

يصعب التأكّد من حقيقة الكلام الذي قيل بينهما، لغيابِ أيّ شاهدٍ عليه، بحسب المُصَوَّر في "البابَوان"، المُقتبس عن مسرحية "البابا" (2017) للنيوزيلندي أنتوني ماك كارتن، كاتب سيناريو الفيلم أيضاً. لكن مضمونه مستلّ من تأمّلات كلّ واحد منهما، ومن أفكاره واشتغالاته ونظرته والتزاماته. بهذا، يتأكّد الميل التوثيقي في فيلمٍ يبغي، كما يبدو، تقديم رجلين من رجال الكنيسة الكاثوليكية، يختلف أحدهما عن الآخر بشدّة، لكنهما يتمكّنان من التزام الاحترام الكامل، وتجاوز فعل الاختلاف، ومواجهة الآخر ـ بهدوء وانفتاح مبطّنين بشيء من السخرية ـ في القضايا المتنَازَع عليها، مع تكسير تدريجي للعوائق والجدران بينهما، إلى درجة أنّ البابا المتعالي والمتعجرف يوافق على اقتراحات بسيطة للكاردينال، لكنها مهمّة، فيتناول معه طعام الغداء (بيتزا)، ويتجوّل بين السيّاح داخل الفاتيكان، ويُشاهدان مباراة في كرة القدم بين المنتخبين الألماني والأرجنتيني.

أما ماك كارتن (1961)، فروائي ومسرحيّ وكاتب سيناريوهاتٍ عديدة، آخرها 3: "نظرية كلّ شيء (The Theory Of Everything) لجيمس مارش (2014)، وDarkest Hour لجو رايت (2017)، و"بوهيميان رابسودي" (2018) لبراين سينغر. أفلامٌ تروي سِيَر 3 شخصيات بريطانية فاعلة في العالم، بدءاً من الباحث ستيفن هاوكينغ (1942 ـ 2018) في الفيلم الأول، ثم السياسي وينستون تشرشل (1874 ـ 1965) في الثاني، والموسيقيّ والمغنّي فريدي ميركوري (1946 ـ 1991) في الثالث. وإذْ تختلف أساليب المعالجة السردية لتلك السِّيَر الحياتية بين الأفلام الـ4، فإنّ غلبة التوثيق السينمائي، وإنْ يكن مبطّناً، تجعل الكتابة أمتن وأصدق في مقارباتٍ سينمائية لأحوالٍ فردية، وبعض تلك الأحوال مرتبط بالعالم ومتغيراته ومساراته وانشغالاته.

لكن النَّفَس التوثيقيّ (غير المتمثّل بتسجيلات مصوّرة عن لقاء البابا بالكاردينال بعد انتخاب الثاني بابا جديداً) لن يُلغي سمة أساسية، يرتكز عليها "البابَوان". فالتمثيل يُشبه، وإنْ بتواضع وخفر، حلبة ملاكمة بين أنتوني هوبكنز (البابا) وجوناثان برايس (الكاردينال)، مُدخلاً إياهما في نزاعٍ أدائيّ غير مهتمّ بالسؤال التقليدي عمّن سيربح في ختامه، بقدر ما يُثير متعةً متأتية من معاينة أداء كلّ واحد منهما، وهو أداء حِرفيّ بالتأكيد، لكنّه جاذب.
متعة ستكون الأبرز والأهمّ، بل الوحيدة ربما، في الفيلم برمّته.
المساهمون