عن سينما عربية حديثة: روايات الصُور

18 يناير 2019
كوثر بن هنيّة: تجديد بصري ودرامي (فيسبوك)
+ الخط -
بين حينٍ وآخر، يُطرح سؤال السينما العربية الجديدة. يناقش البعضُ سماتها. ينتبه إلى تنوّع جغرافيّتها ومواضيعها، وإن تتشابه أحياناً في ملامح ووقائع وحكايات وانفعالات. يقول آخرون بجماليات تلتقي في كيفية صناعة أفلامها، وإنْ تفترق في أساليب مخرجيها، والتأثرات التي يخضعون لها، ومفردات الوعي المعرفي والثقافي والجمالي التي يتلقّونها ويعتمدونها في اشتغالاتهم المتنوّعة.

هناك اختلافٌ واضحٌ في إنتاج أنواع بصرية، يُتيح القول إن سينما عربية جديدة تؤكّد حضورها في المشهد، وإنها مُرشَّحة لتطوير بناها المتنوّعة.

مثلٌ أول: يُجمع نقّادٌ ومتابعون، عرب وأجانب، على أن الفيلم الوثائقي اللبناني، المُنتَج منذ منتصف تسعينيات القرن الـ20 تقريبًا، يحتلّ المرتبة الأولى في العالم العربي، على مستوى النص والمعالجة والصورة والاشتغال الدرامي والإنساني والجمالي.

مثلٌ ثان: تؤكّد السينما الفلسطينية  الحديثة ـ خصوصًا تلك المنبثقة من لغة التجديد البصري، المتمثّلة في اشتغالات ايليا سليمان وهاني أبو أسعد، وقبلهما ميشال خليفي، وبعدهما رائد أنضوني وكمال الجعفري وآن ماري جاسر ومهدي فليفل، وغيرهم ـ على خروجٍ واضحٍ من عباءة الإيديولوجيا والنضال والجماعة، إذْ يُمعن هؤلاء السينمائيون الفلسطينيون (وآخرون غيرهم أيضًا) في التنقيب الجمالي، روائيًا ووثائقيًا وتجريبيًا، في أحوال الفرد والتراكمات التي تُثقل عليه، وفي مساراته وحكاياته وأهوائه، وإنْ يذهب بعضهم ـ معه أو عبره ـ إلى أحوال جماعة ينتمي إليها، أو بيئة تحيط به.

مثلٌ ثالثٌ: بداية الألفية الثانية في القرن الـ21 تُرافق ولادة جيل سينمائي مصري شاب، يتوغّل في "جوّانية" الذات ـ الفرد، بعيدًا عن كلّ إسقاطٍ سياسي ـ اقتصادي ـ ثقافي، وإنْ يلمّح بعض سينمائييه إلى السياسي والاقتصادي والثقافي، من دون قول مباشر، ومن دون تحليل أكاديمي إيديولوجي، ومن دون التزام عقائدي نضالي. وهذا في مقابل آخرين يتناولون أحوال "ثورة 25 يناير" (2011) والانقلابات العديدة عليها، مع ميلٍ كبيرٍ إلى التزام التناول السينمائيّ لـ"جوّانية" الذات ـ الفرد أيضًا، "المتورّط" في الثورة وإفرازاتها ومساراتها.



للمثل الثالث تتمّة: اشتغال شبابي مصري يخرج على سابقيه، من دون تمرّد عبثيّ أو انفعاليّ أو رافض كلّياً لنتاجاته وأفكاره وتأملاته وآليات عمله الفني والتقني، ويُقدِّم نتاجًا "يتفوّق" أحيانًا على تجديدٍ شبابيّ مصنوع بلهفة سينمائية على بحثٍ دؤوب في تطوير كلّ بوحٍ، إذْ يذهب صانعوه إلى ما هو أبعد من المتداول التجديدي، بأن يجتهد في خلق هامشٍ آخر، إبداعي وجماليّ وإنساني، وأكثر ذاتية، يُكمل ما سبقه بقليل، أو يترافق وإياه في إبراز غير المُبرَز سابقاً.

وإذْ يواجه مخرجون شباب تجديديّون ـ أمثال هالة لطفي ونادين خان وشريف البنداري ومحمد فوزي صالح وغيرهم، وهؤلاء لاحقون لجيل تجديدي، هو الآخر، يتمثّل في إبراهيم البطوط وأحمد العبدالله، كنموذجين أساسيين في ابتكار أدوات قول سينمائي، يرتكز على الصورة وتوليفاتها وإمكانياتها الكبيرة في البوح والتقاط نبض المدينة والشارع والناس ـ مآزق إنتاجية مالية بحتة، ما يدفعهم إلى ابتكار وسائل متنوّعة (شركات أو جمعيات أو تعاونيات إنتاجية) لتمويل مشاريع مستقلّة تمامًا عن النظام الإنتاجي المعتاد؛ فإن لاحقين بهم، أمثال كريم حنفي ومحمد حماد ومحمد رشاد وآخرين، يحاولون تفعيل ذاك المسار الفني، ويجتهدون في إيجاد منافذ إنتاجية تتلاءم ومشاريعهم التجديدية تلك، ويُصرّون على إعلاء شأن الصورة بقدراتها الفنية والجمالية والسردية، ويبحثون في تفاصيل الهوامش كأنها متن كل حكاية أو حالة أو انفعال أو موقف.

أمثلة كهذه لن تُلغي حراكًا سينمائيًا في دول المغرب العربي، ولن تتغاضى عن مخرجين شباب كثيرين يعملون ـ هنا وهناك ـ بجهدٍ كي تكون أفلامهم مرايا تعكس أحوالهم وحكاياتهم وهواجسهم وتأمّلاتهم ورغباتهم. وإذْ تُختصَر الأمثلة بأسماء قليلة جدًا وبجغرافيات أقلّ، فهذا لن يمنع أي مهتمّ من متابعة الحراك السينمائيّ في سورية والأردن وبعض دول الخليج العربي أيضًا، وإنْ بتفاوت إبداعي وإنتاجي وجمالي بين نتاجاته، من دون تناسي مخرجين عرب مقيمين في دول الاغتراب والمنافي، في أوروبا وأميركا وغيرهما.

تونسيون عديدون يجتهدون في تطوير لغة القول والصورة، أمثال كوثر بن هنيّة وعلاء الدين سليم ولطفي عاشور ومحمد بن عطية وسارة عبيدي وغيرهم؛ من دون تناسي الاختبار السينمائي الأول للجزائري كريم موساوي، المتمثّل في "طبيعة الحال" (2017)، علماً أن لسليم فيلمًا روائيًا طويلًا واحدًا، هو "آخر واحد فينا" (2016)؛ فأفلام هؤلاء تعكس تطويرًا سليمًا لجمالية الصورة في مواكبة الراهن، ومحاولة تفكيكه وكشف خفاياه والمبطّن فيه، وتؤكّد أن التجديد البصري يُمعِن في اختراق المسكوت عنه، عبر تلك الصورة الطالعة من أحوال ووقائع وتفاصيل، كي تؤرشف وتفضح وتواجه وتناقش، باعتماد شبه مطلق على لغة بصرية متماسكة غالبًا، مع أن أفلامًا أخرى ـ كـ"ولدي" (2018) لبن عطية مثلاً ـ مُصاب بأعطاب بصرية ودرامية رغم أهمية موضوعه (التحاق شباب تونسيين بالجهاد في سورية).

لكنّ مأزقًا يبرز في هذا الإطار: هذا كلّه مرتبطٌ بأفلام عربية، يُنجزها مخرجون عربٌ مُقيمون في بلدانهم أو في دول الاغتراب (بعض هؤلاء الأخيرين مستمرٌّ في نبش ما في المخزون الذاتي من تراكمات متعلّقة ببلدانه الأصليّة، وبعضهم الآخر مهتمٌّ بأحوال العرب في المنافي والمغتربات)؛ أي أن الاجتهاد الفردي لا يزال قائمًا، ولا يزال ـ في الوقت نفسه ـ عاجزًا عن التحوّل إلى "سينمات عربية" (كما يحلو للّبناني المخضرم برهان علوية القول) تتكامل في انتفاضاتها البصرية المختلفة على حراكٍ سابقٍ عليها.

(*) من دراسة طويلة عن الحراك السينمائي العربي الحديث، تصدر قريبًا.
المساهمون