افتُتحت الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي الدولي"، بـ"الرجل الأول" لداميان شازيل، أول أفلام المسابقة الرسمية، بعد عامين اثنين فقط على افتتاح الدورة الـ73 (31 أغسطس/ آب ـ 10 سبتمبر/ أيلول 2016) للمهرجان نفسه بفيلم لشازيل أيضًا، هو "لا لا لاند".
بعد مُشاهدة الفيلم الروائي الطويل الرابع هذا للفرنسي الأميركي شازيل (1985)، طُرح سؤال: ما الذي دفع المخرج إلى تحقيق هذا الفيلم؟ فهو أثبت تمكّنه في إنجاز نوعية معيّنة يندر أن ينافسه فيها أحدٌ، وكانت فعليًا سرّ تميّزه وموهبته، وهو النوع الموسيقي، إذْ يعشق شازيل الموسيقى إلى درجة الهوس. فبفضلها استطاع إضافة الجديد إلى السينما، التي تفتقد منذ عقود أفلامًا فنية من تلك النوعية الراقية. لكن، في الوقت نفسه، طُرحت أسئلة أخرى: أليس مُحبّذًا ألا يحصر المبدع نفسه في نوع فني محدَّد؟ أليس الأفضل له أن يخرج من منطقته المعتادة، من حين إلى آخر، ليمارس التجريب، بصرف النظر عن نجاح التجربة أو فشلها؟ أليس هذا هو الفن وجوهره؟
يحقّ لداميان شازيل اختبار تجارب مختلفة. فالتجريب محمودٌ إنْ يُحسِن المخرج الاختيار، وإنْ يكن لديه جديد يقدّمه. لكن، يصعب للغاية القول إن في فيلمه الأخير هذا جديداً أو خارقاً أو مُختلفاً، أولاً كمخرج ومبدع وحِرَفي، وثانيًا في إطار هذا النوع من الأفلام. فـ"الرجل الأول" ليس خيالاً علميًا بل درامي إنساني يتضمّن معلومات علمية وفنية، ويسرد من دون تحريف واقعة تاريخية يعرفها كثيرون. لهذا النوع السينمائي مشاكله، أولاها غياب الإثارة والحماسة والتشويق، إذْ إن معرفة المُشاهِد نهاية الحكاية وبعض التفاصيل تقتل كلّ شغف، رغم جمال اللقطات الأخيرة، التي تنقل لحظات هبوط المركبة على سطح القمر وفتح بابها، ونزول نِلْ أرمسترونغ (راين غوزلينغ) سُلَّم المركبة، ورصد خطوات أوّل بشريّ تطأ قدماه سطح القمر. تلك لقطات تُعتبر الأجمل والأقوى في الفيلم.
يرصد "الرجل الأول" تطوّرات مختلفة في سيرة حياة أرمسترونغ في ستينيات القرن الـ20، حتى لحظة هبوطه على سطح القمر في 20 يوليو/ تموز 1969، ثم عودته إلى الأرض. بهذا، يجمع السيناريو بين خطين: مقتطفات من الحياة الخاصّة لرائد الفضاء (1930 ـ 2012)، ولحظات عديدة من حياته العملية. بينهما، يتنقَّل شازيل بفضل المونتاج، من دون أن يطغى خطٌّ على آخر. تارةً، يظهر أرمسترونغ في بيته مع عائلته، منذ فقدانه ابنته وهي في الخامسة من عمرها؛ والحب الناضج بينه وبين زوجته الأولى جانيت شيرون (كلير فوي)، وتجاوزهما معًا لتلك المحنة؛ ثم حملها اللاحق بصبي آخر، هو الابن الثاني لهما. وتارة أخرى، يبتعد عن الحياة الأسرية: لم يكن أرمسترونغ يعمل في "وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)" منذ تقدّمه لوظيفة رائد فضاء، بعد قراءته إعلانًا بهذا الخصوص منشورًا في الصحف. لكنه يُقبل، ويخضع للتدريب مع زملاء له، وصولاً إلى سيره على سطح القمر.
في 138 دقيقة، تظهر الجهود الحثيثة للوكالة ورجالها، وتوظيف العلم والتدريب لتحقيق تلك المعجزة، التي يحاول الفيلم القول إنها لم تكن وليدة صدفة ولا نتيجة نجاح عابر أو مُجرّد حظّ، بل ثمرة جهد وتعب وعمل لأعوامٍ طويلة، فَقَد 5 أفراد أرواحهم خلالها في تجارب مُختلفة، قبل أن تحطّ مركبة نِلْ أرمسترونغ ورفيقيه على سطح القمر. أعوام عانت جانيت وطفلاه خلالها صعوبات بالغة وضغوطًا جمة، اختُتِمت في النهاية بجلوسه معهم فيما يشبه لقاء الوداع الأخير، قبل صعوده إلى القمر في رحلة لم تكن مضمونة العواقب.
مع مخرج موهوب ومُتمرّس مثل داميان شازيل، لا يُمكن الحديث عن هفوات إخراجية أو مشاكل تصويرية أو كيفية اختيار الممثلين. صحيحٌ أن لا إبداع مذهلاً، لكن الفيلم والإخراج رائعان من دون شك، علمًا أن مُنتجه المُنَفِّذ هو ستيفن سبيلبيرغ. الأزياء مثلاً تُقنع المشاهدين بمناخ الستينيات، كما تُقنعهم مشاهد الفضاء الخارجي. وراين غوزلينغ اجتهد للاقتراب بصدق حقيقي من شخصية أرمسترونغ، وكان مقنعًا بعض الشيء. أما كلير فوي فأدّت دور الزوجة بقوة بالغة، وإقناع وقلق على زوجها لا افتعال فيهما.
بعد "الرجل الأول"، باتت عودة داميان شازيل إلى النوع السينمائي المعتاد لديه مُنتظرة. ففي جديده اللاحق لهذا الفيلم، الذي أعلن عنه مؤخرًا، يعود إلى الموسيقى، بإخراجه مسلسلاً تلفزيونيًا بحلقتين اثنتين تدور أحداثهما في حانة باريسية تقدّم عروضًا موسيقية يومية. لكن، بعيدًا عن هذا المشروع، فإن تجربة "الرجل الأول" ستمرّ سريعًا، ولن تُذكر لاحقًا في السيرة الإخراجية لصاحبها، لعدم إضافته أي جديد لها، رغم إيجابياته.