عرّفها الشاعر البريطاني اللورد بايرون (1788 ـ 1824) بـ "المدينة الخرافية"، واصفًا إياها بكونها "أحد أكثر الأماكن سحرًا وتأثيرًا في القلوب". صاحبة حضارة عريقة تمتدّ في مجالات مختلفة. قدّمت للعالم أبرز الأسماء وألمعها في ميادين عديدة، لا تزال تتردّد لغاية اليوم. في الموسيقى، هناك غويسيبي تارتيني (1692 ـ 1770) وأنطونيو فيفالدي (1678 ـ 1741). تشكيليًا، هناك "مدرسة فينيسيا" العريقة، وجاكوبو روبوستي المعروف أيضًا بجاكوبو تينتوريتّو (1518 ـ 1594) وباولو كالياري المعروف بباولو فيرونازي (1528 ـ 1588) وتيزيانو فيتشيليو الملقّب بتيتيان (1488 ـ 1576).
إنها المدينة الإيطالية فينيسيا، أو البندقية. نظرًا إلى جغرافيتها وتكوينها الفريد وعمارتها المُتميزة، كانت ولا تزال مُلهمة أدباء كثيرين، تناولوها كخلفية لأعمالهم، أو حيّزًا مكانيًا تدور فيه الأحداث برمّتها.
ينطبق الأمر على السينما، وإن بدرجة أقلّ. ربما يُعزى هذا إلى التاريخ القصير نسبيًا للسينما، مُقارنة بتاريخ الأدب والموسيقى وفنون أخرى. مع ذلك، يمكن القول إن غالبية الأنواع السينمائية اتّخذت من المدينة خلفية لها، أو كانت المدينة نفسها "مكانًا" تجري فيه بعض الأحداث، أو معظمها، إنْ تكن الأفلام رومانسية، أو أفلام رسوم متحركة (أفلام تحريك). لكن هذا التناول لم يكن عميقًا ومُكثفًا، بل سياحيًا واستعراضًا للجمال المشهدي للمدينة القديمة، أكثر من أي شيء آخر.
برزت المدينة في أعمال فنية رصينة لكبار الأدباء، منذ الإنكليزي ويليام شكسبير (1564 ـ 1616) إلى مواطنه إيان ماك إيوان (1948)؛ كما ظهرت في أفلام مُخرجين مهمّين، كالأميركي أورسون ويلز (1915 ـ 1985) والإيطاليين لوتشينو فيسكونتي (1906 ـ 1976) وفيديريكو فيلّيني (1920 ـ 1993) وغيرهم. أفلام جاسوسية وإثارة وتشويق ومغامرة، كما في سلسلة جيمس بوند مثلاً. وهي ظهرت في أفلام حبّ ورومانسية وكوميديا، لمخرجين غربيّين عديدين، كستيفن سبيلبيرغ (1946) وأنتوني مانغيلا (1954 ـ 2008) وستيفن سودربيرغ (1963) وبول شرايدر (1946) ووودي آلن (1935) ولوك بوسّون (1959) وغيرهم.
لكن، في مقابل الاهتمام الغربيّ بها، لم يكترث الإيطاليون بها كثيرًا. هذا كحال الأدب، إذْ لم يشتغل أدباء إيطاليون كثيرون عليها في نصوصهم وأعمالهم، باستثناء كارلو غولدوني (1707 ـ 1793) وإيتالو كالفينو (1923 ـ 1985)، على نقيض الغربيين، إذْ "خلّدها" شكسبير في مسرحيتي "عطيل، أو مستنقع فينيسيا" (1604)، و"تاجر البندقية" (1605). للعملين سحرهما من دون شك، فالأول (جزءٌ من الأحداث يدور فيها) يُبيّن إلى أي مدى كانت المدينة مُنفتحة على الأعراق والأجناس كلّها، كمدينة أو دوقية أو جمهورية، من الصين إلى أميركا اللاتينية. "عطيل" أفريقي أسمر البشرة، جاءها كمُرتزق يحارب بأجرٍ، وصار لاحقًا قائدًا لأسطولها. المُشكلة أن الأمور تتعقّد عندما يُقرّر عطيل اختطاف دزدمونة، ابنة أحد أعضاء مجلس الشيوخ، ويفرّ معها ويتزوّجها، من دون تناسي مجريات الأحداث اللاحقة بالفرار أو المرتبطة به.
العمل المُلهِم هذا مثيرٌ لحماسة كثيرين، اقتبسوه سينمائيًا مرات عديدة. أبرزهم أورسون ويلز والإيطالي فرانكو زيفريلّي (1923)، الذي صنع نسخة أوبرالية منها عام 1986. اقتباس ويلز (1951) فاز بالجائزة الكبرى في الدورة الـ50 (23 إبريل/ نيسان ـ 10 مايو/ أيار 1952) لمهرجان "كانّ" السينمائي، مُناصفة مع الفيلم الإيطالي Due Soldi Di Speranza لريناتو كاستيلاّني (1913 ـ 1985). اقتباس استغرق تصويره 3 أعوام، وصدرت منه مُؤخرًا نسختان مُرمّمتان: واحدة صوَّرَها ويلز، وأخرى تدخّلت فيها الشركة المنتجة "ميركوري ـ سكاليرا فيلم"، فعدَّلتها أو نقَّحتها، أو بالأحرى "شوَّهَتها".
المُثير للانتباه أن ويلز صَوَّر مشاهد قليلة جدًا في مدينة فينيسيا، إذْ إنه اختار مدنا مغربية لتصوير المشاهد، بالإضافة إلى بعض المدن الإيطالية الأخرى، مُوحيًا ـ بفضل ديكورات ألكسندر تراونر ـ أنها البندقية الأصلية.
رغم أنها منتمية إلى نوع "الدراما الهزلية"، إلا أن موضوع "تاجر البندقية" (دارت احداثها كلّها في المدينة نفسها) شديد العمق والطرافة. مع هذا، فهي لم تُقتَبس كثيرًا للسينما، مُقارنة بـ"عطيل". المسرحية معروفة حبكتها. الجديد أن مؤرّخين أثبتوا أن شكسبير لم يكن صاحب فكرة اقتطاع جزء من لحم بشري مقابل دَين، إذْ سبقته أدبيات أخرى إلى هذا الموضوع. وهذا أيضًا مُنسحبٌ على فكرة جَعْل المُغامِر يستدين المال للقيام برحلة بهدف غزو قلب المرأة الثرية. ذلك أنّ شكسبير دمج القصتين إحداهما بالأخرى، وصاغ "الحبكة" بأسلوبه، مُضفيًا بعدًا عميقًا وتأمّلاً في طبيعة النفس البشرية. ورغم اقتباس "تاجر البندقية" سينمائيًا منذ عشرينيات القرن الـ20، إلا أنّ النسخة الأكثر نجاحًا هي تلك التي أخرجها البريطاني مايكل رادفورد (1946) عام 2004 بالعنوان نفسه، علمًا أن لآل باتشينو (1940) أداءً رائعًا في تقديم شخصية شايلوك، المُرابي اليهودي.
أورسون ويلز نفسه اقتبس المسرحية، وأنجز تصوير نصف فيلمٍ تقريبًا فالتعثر المالي حال دون اكتمال المشروع. لاحقًا، سيزعم ويلز سرقة "نيغاتيف" المُصوَّر، لكن ما تبقى لن يتعدّى 36 دقيقة، سيجري ترميمها وعرضها في الدورة الـ72 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2015) لمهرجان فينيسيا، بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لولادة المخرج.
"عبر النهر وباتجاه الأشجار" (1950) ليست من أبرز روائع الأميركي إرنست هيمنغواي (1899 ـ 1961)، لكن أحداثًا كثيرة فيها تدور في فينيسيا ومُحيطها. هيمنغواي عاشقٌ لفينيسيا، أقام فيها فترات طويلة، وكتب عنها بناءً على تجربة شخصية بحتة، كما يفعل دائمًا في غالبية أعماله. فهو هائمٌ بالكونتيسة الشابّة أدريانا إيفانسيتش (18 عامًا)، ابنة فينيسيا، حين كان هو على مشارف الخمسينيات من عمره. كان الأمر كارثيًا في المدينة، لذا حاول تعطيل طباعة الترجمة الإيطالية للرواية. مع ذلك، صدرت في النهاية، لكنها لم تُؤفلم إلى أن اقتبسها مارتن كامبل (نيوزيلندا، 1943) مؤخّرًا، والمشروع لا يزال لغاية الآن في مرحلة ما بعد الإنتاج، ولم يُعرف موعد عرضه في المهرجانات أو في الصالات السينمائية.
رغم هذا كلّه، فإنّ أشهر لقاء بين الأدب والسينما المعنيَّين بفينيسيا، وأندر لقاءاتهما الناجحة لغاية الآن، يتمثّل برائعة الألمانيّ توماس مان (1875 ـ 1955) "موت في فينيسيا" (1912)، التي اقتبسها فيسكونتي عام 1971، صانعًا في الاقتباس السينمائي تعديلات طفيفة على الرواية. في النهاية، فإن مُعالجته السينمائية لم تُجافِ الأصل. أما أبرز التعديلات، فمتمثّلة بتحويل بطلها الكاتب آشنباخ (الرواية) إلى مؤلّف موسيقي (الفيلم). طبعًا، فإنّ أحداث الرواية والفيلم معروفان. لكن اللافت للانتباه بخصوص هذين العملين أنه يندر أن تدور أحداث رواية في فينيسيا وتبتعد عن القلب التاريخي والسياحي للمدينة. كما لم يحدث أن صُوِّرَت أعمال سينمائية في "الليدو" أو في غيرها من جُزر فينيسيا.
في فندق "غران دي بان" في "الليدو"، حيث كان آشنباخ يقضي عطلته في هدوء متأمّلاً الحياة والفن وحياته بشكل عام، صَوَّر فيسكونتي فيلمه هذا. لم يتخيّل أحدٌ ما سيكون عليه مصير الفندق العريق، الذي استضاف نجومًا كثيرين كانوا ضيوف مهرجان فينيسيا، فهو مُغلق منذ أعوام عديدة بسبب ترميمه، وكان يُفترض بافتتاحه أن يحصل قبل 3 أعوام، بعد تحويله إلى مبنى يضمّ شققًا فندقية فاخرة. لكن، لغاية الآن، لا تزال الأقمشة تكسوه، حاجبةّ واجهته وما في داخله عن عيون المارّة. يُذكر أن الفندق، وهو أحد المعالم التاريخية للجزيرة، استُخدِمَ في تصوير مشاهد عديدة في "المريض الإنكليزي" (1996) للبريطاني أنتوني مانغيلا ـ المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكندي مايكل أونداتجي (1943) صادرة عام 1992 ـ باعتباره "فندق شيبرد" في القاهرة، الذي احترق في يناير/ كانون الثاني 1952، أثناء ما يُعرف بـ"حريق القاهرة".
فعليًا، يصعب حصر الأعمال الفنية كلّها التي تناولت مدينة فينيسيا، أو اتّخذت منها مسرحًا لأحداثها. لكن اللافت للانتباه أن شخصية تاريخية عظيمة كالرحّالة والمُستكشف ماركو بولو (1254 ـ 1324)، المولود والمتوفّى في فينيسيا، لم تجذب كبار الأدباء، باستثناء الإيطالي إيتالو كالفينو في "مدن لا مرئية" (1972)، أو المخرجين، لتناولها وقراءة حياتها. بدرجة أقل، ينطبق الأمر على جياكومو كازانوفا (1725 ـ 1798)، الذي لم يُصنع عنه الكثير، بل تمّ تناول الجانب الفضائحي في حياته، واختُزل شخصه في علاقاته النسائية، رغم المعالجة الفريدة التي اعتمدها فيدريكو فيلّيني في تناوله تلك الشخصية الدرامية الثرية والمُثقّفة والفريدة من نوعها، والتي تتحدّث لغات عديدة، والتي مارست أعمالاً كثيرة، وعاشت في بلدان مختلفة، وماتت غريبة عن وطنها. هذه شخصية مولودة في "جمهورية فينيسيا"، لكنها لم تأخذ حقّها بعد.
بعد الاطّلاع على سيرته، يتبيّن أن كثيرين تغاضوا أو تغافلوا عن تناول قصّة هروبه من زنزانته، بحفره إياها بإزميل وملعقة. الملابسات الطريفة التي صاحبت هروبه كفيلة بصنع فيلم أو كتابة عمل أدبي يمتلكان تشويقًا وإثارة كبيرين.
ينطبق الأمر على السينما، وإن بدرجة أقلّ. ربما يُعزى هذا إلى التاريخ القصير نسبيًا للسينما، مُقارنة بتاريخ الأدب والموسيقى وفنون أخرى. مع ذلك، يمكن القول إن غالبية الأنواع السينمائية اتّخذت من المدينة خلفية لها، أو كانت المدينة نفسها "مكانًا" تجري فيه بعض الأحداث، أو معظمها، إنْ تكن الأفلام رومانسية، أو أفلام رسوم متحركة (أفلام تحريك). لكن هذا التناول لم يكن عميقًا ومُكثفًا، بل سياحيًا واستعراضًا للجمال المشهدي للمدينة القديمة، أكثر من أي شيء آخر.
برزت المدينة في أعمال فنية رصينة لكبار الأدباء، منذ الإنكليزي ويليام شكسبير (1564 ـ 1616) إلى مواطنه إيان ماك إيوان (1948)؛ كما ظهرت في أفلام مُخرجين مهمّين، كالأميركي أورسون ويلز (1915 ـ 1985) والإيطاليين لوتشينو فيسكونتي (1906 ـ 1976) وفيديريكو فيلّيني (1920 ـ 1993) وغيرهم. أفلام جاسوسية وإثارة وتشويق ومغامرة، كما في سلسلة جيمس بوند مثلاً. وهي ظهرت في أفلام حبّ ورومانسية وكوميديا، لمخرجين غربيّين عديدين، كستيفن سبيلبيرغ (1946) وأنتوني مانغيلا (1954 ـ 2008) وستيفن سودربيرغ (1963) وبول شرايدر (1946) ووودي آلن (1935) ولوك بوسّون (1959) وغيرهم.
لكن، في مقابل الاهتمام الغربيّ بها، لم يكترث الإيطاليون بها كثيرًا. هذا كحال الأدب، إذْ لم يشتغل أدباء إيطاليون كثيرون عليها في نصوصهم وأعمالهم، باستثناء كارلو غولدوني (1707 ـ 1793) وإيتالو كالفينو (1923 ـ 1985)، على نقيض الغربيين، إذْ "خلّدها" شكسبير في مسرحيتي "عطيل، أو مستنقع فينيسيا" (1604)، و"تاجر البندقية" (1605). للعملين سحرهما من دون شك، فالأول (جزءٌ من الأحداث يدور فيها) يُبيّن إلى أي مدى كانت المدينة مُنفتحة على الأعراق والأجناس كلّها، كمدينة أو دوقية أو جمهورية، من الصين إلى أميركا اللاتينية. "عطيل" أفريقي أسمر البشرة، جاءها كمُرتزق يحارب بأجرٍ، وصار لاحقًا قائدًا لأسطولها. المُشكلة أن الأمور تتعقّد عندما يُقرّر عطيل اختطاف دزدمونة، ابنة أحد أعضاء مجلس الشيوخ، ويفرّ معها ويتزوّجها، من دون تناسي مجريات الأحداث اللاحقة بالفرار أو المرتبطة به.
العمل المُلهِم هذا مثيرٌ لحماسة كثيرين، اقتبسوه سينمائيًا مرات عديدة. أبرزهم أورسون ويلز والإيطالي فرانكو زيفريلّي (1923)، الذي صنع نسخة أوبرالية منها عام 1986. اقتباس ويلز (1951) فاز بالجائزة الكبرى في الدورة الـ50 (23 إبريل/ نيسان ـ 10 مايو/ أيار 1952) لمهرجان "كانّ" السينمائي، مُناصفة مع الفيلم الإيطالي Due Soldi Di Speranza لريناتو كاستيلاّني (1913 ـ 1985). اقتباس استغرق تصويره 3 أعوام، وصدرت منه مُؤخرًا نسختان مُرمّمتان: واحدة صوَّرَها ويلز، وأخرى تدخّلت فيها الشركة المنتجة "ميركوري ـ سكاليرا فيلم"، فعدَّلتها أو نقَّحتها، أو بالأحرى "شوَّهَتها".
المُثير للانتباه أن ويلز صَوَّر مشاهد قليلة جدًا في مدينة فينيسيا، إذْ إنه اختار مدنا مغربية لتصوير المشاهد، بالإضافة إلى بعض المدن الإيطالية الأخرى، مُوحيًا ـ بفضل ديكورات ألكسندر تراونر ـ أنها البندقية الأصلية.
رغم أنها منتمية إلى نوع "الدراما الهزلية"، إلا أن موضوع "تاجر البندقية" (دارت احداثها كلّها في المدينة نفسها) شديد العمق والطرافة. مع هذا، فهي لم تُقتَبس كثيرًا للسينما، مُقارنة بـ"عطيل". المسرحية معروفة حبكتها. الجديد أن مؤرّخين أثبتوا أن شكسبير لم يكن صاحب فكرة اقتطاع جزء من لحم بشري مقابل دَين، إذْ سبقته أدبيات أخرى إلى هذا الموضوع. وهذا أيضًا مُنسحبٌ على فكرة جَعْل المُغامِر يستدين المال للقيام برحلة بهدف غزو قلب المرأة الثرية. ذلك أنّ شكسبير دمج القصتين إحداهما بالأخرى، وصاغ "الحبكة" بأسلوبه، مُضفيًا بعدًا عميقًا وتأمّلاً في طبيعة النفس البشرية. ورغم اقتباس "تاجر البندقية" سينمائيًا منذ عشرينيات القرن الـ20، إلا أنّ النسخة الأكثر نجاحًا هي تلك التي أخرجها البريطاني مايكل رادفورد (1946) عام 2004 بالعنوان نفسه، علمًا أن لآل باتشينو (1940) أداءً رائعًا في تقديم شخصية شايلوك، المُرابي اليهودي.
أورسون ويلز نفسه اقتبس المسرحية، وأنجز تصوير نصف فيلمٍ تقريبًا فالتعثر المالي حال دون اكتمال المشروع. لاحقًا، سيزعم ويلز سرقة "نيغاتيف" المُصوَّر، لكن ما تبقى لن يتعدّى 36 دقيقة، سيجري ترميمها وعرضها في الدورة الـ72 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2015) لمهرجان فينيسيا، بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لولادة المخرج.
"عبر النهر وباتجاه الأشجار" (1950) ليست من أبرز روائع الأميركي إرنست هيمنغواي (1899 ـ 1961)، لكن أحداثًا كثيرة فيها تدور في فينيسيا ومُحيطها. هيمنغواي عاشقٌ لفينيسيا، أقام فيها فترات طويلة، وكتب عنها بناءً على تجربة شخصية بحتة، كما يفعل دائمًا في غالبية أعماله. فهو هائمٌ بالكونتيسة الشابّة أدريانا إيفانسيتش (18 عامًا)، ابنة فينيسيا، حين كان هو على مشارف الخمسينيات من عمره. كان الأمر كارثيًا في المدينة، لذا حاول تعطيل طباعة الترجمة الإيطالية للرواية. مع ذلك، صدرت في النهاية، لكنها لم تُؤفلم إلى أن اقتبسها مارتن كامبل (نيوزيلندا، 1943) مؤخّرًا، والمشروع لا يزال لغاية الآن في مرحلة ما بعد الإنتاج، ولم يُعرف موعد عرضه في المهرجانات أو في الصالات السينمائية.
رغم هذا كلّه، فإنّ أشهر لقاء بين الأدب والسينما المعنيَّين بفينيسيا، وأندر لقاءاتهما الناجحة لغاية الآن، يتمثّل برائعة الألمانيّ توماس مان (1875 ـ 1955) "موت في فينيسيا" (1912)، التي اقتبسها فيسكونتي عام 1971، صانعًا في الاقتباس السينمائي تعديلات طفيفة على الرواية. في النهاية، فإن مُعالجته السينمائية لم تُجافِ الأصل. أما أبرز التعديلات، فمتمثّلة بتحويل بطلها الكاتب آشنباخ (الرواية) إلى مؤلّف موسيقي (الفيلم). طبعًا، فإنّ أحداث الرواية والفيلم معروفان. لكن اللافت للانتباه بخصوص هذين العملين أنه يندر أن تدور أحداث رواية في فينيسيا وتبتعد عن القلب التاريخي والسياحي للمدينة. كما لم يحدث أن صُوِّرَت أعمال سينمائية في "الليدو" أو في غيرها من جُزر فينيسيا.
في فندق "غران دي بان" في "الليدو"، حيث كان آشنباخ يقضي عطلته في هدوء متأمّلاً الحياة والفن وحياته بشكل عام، صَوَّر فيسكونتي فيلمه هذا. لم يتخيّل أحدٌ ما سيكون عليه مصير الفندق العريق، الذي استضاف نجومًا كثيرين كانوا ضيوف مهرجان فينيسيا، فهو مُغلق منذ أعوام عديدة بسبب ترميمه، وكان يُفترض بافتتاحه أن يحصل قبل 3 أعوام، بعد تحويله إلى مبنى يضمّ شققًا فندقية فاخرة. لكن، لغاية الآن، لا تزال الأقمشة تكسوه، حاجبةّ واجهته وما في داخله عن عيون المارّة. يُذكر أن الفندق، وهو أحد المعالم التاريخية للجزيرة، استُخدِمَ في تصوير مشاهد عديدة في "المريض الإنكليزي" (1996) للبريطاني أنتوني مانغيلا ـ المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكندي مايكل أونداتجي (1943) صادرة عام 1992 ـ باعتباره "فندق شيبرد" في القاهرة، الذي احترق في يناير/ كانون الثاني 1952، أثناء ما يُعرف بـ"حريق القاهرة".
فعليًا، يصعب حصر الأعمال الفنية كلّها التي تناولت مدينة فينيسيا، أو اتّخذت منها مسرحًا لأحداثها. لكن اللافت للانتباه أن شخصية تاريخية عظيمة كالرحّالة والمُستكشف ماركو بولو (1254 ـ 1324)، المولود والمتوفّى في فينيسيا، لم تجذب كبار الأدباء، باستثناء الإيطالي إيتالو كالفينو في "مدن لا مرئية" (1972)، أو المخرجين، لتناولها وقراءة حياتها. بدرجة أقل، ينطبق الأمر على جياكومو كازانوفا (1725 ـ 1798)، الذي لم يُصنع عنه الكثير، بل تمّ تناول الجانب الفضائحي في حياته، واختُزل شخصه في علاقاته النسائية، رغم المعالجة الفريدة التي اعتمدها فيدريكو فيلّيني في تناوله تلك الشخصية الدرامية الثرية والمُثقّفة والفريدة من نوعها، والتي تتحدّث لغات عديدة، والتي مارست أعمالاً كثيرة، وعاشت في بلدان مختلفة، وماتت غريبة عن وطنها. هذه شخصية مولودة في "جمهورية فينيسيا"، لكنها لم تأخذ حقّها بعد.
بعد الاطّلاع على سيرته، يتبيّن أن كثيرين تغاضوا أو تغافلوا عن تناول قصّة هروبه من زنزانته، بحفره إياها بإزميل وملعقة. الملابسات الطريفة التي صاحبت هروبه كفيلة بصنع فيلم أو كتابة عمل أدبي يمتلكان تشويقًا وإثارة كبيرين.