يُصرّ الإيراني جعفر بناهي على تحدّي المخاطر، لتصوير فيلمٍ سينمائيّ في بلده. منذ 10 أعوام، يُعاند قرارًا سلطويّا يقضي بمنعه من التصوير، بتّهمة الترويج لأفكار تناهض إيران وجمهوريتها الإسلامية وسلطاتها الحاكمة. ففي الانتخابات الرئاسية في دورة عام 2009، يتّخذ بناهي موقفًا مُعارضًا للرئيس محمد أحمدي نجاد، يؤدّي به (الموقف) إلى اتّهامات ومحاكمات، ينتج منها قراراتٍ قاهرة: إقامة جبرية (تمّ تخفيفها لاحقًا)، ومنعه من تحقيق أفلامٍ لـ20 عامًا.
منع سينمائيّ من تحقيق أفلامٍ يُشبه حكمًا بالإعدام. ينتفض جعفر بناهي على قراراتٍ كهذه بهدوء. يستعين بوسائل، ويتعاون مع أصدقاء وزملاء مهنة، ويُنجز أفلامًا، بعضها لن يبلغ المرتبة البديعة لآخر أفلامه "3 وجوه" (2018)، الفائز بجائزة السيناريو في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ"، مناصفة مع الإيطالية أليس روهرواشر عن "سعيدٌ كإلعازار".
يتسلّل السينمائيّ إلى خارج منزله. يلتقط وقائع مستلّة من نبض الشارع الإيراني. "يُهرِّب" أفلامه إلى خارجٍ توّاقٍ إلى مقارعة الحكم الإيراني بشتّى الأدوات. يُقال إن "هذا ليس فيلمًا" (2011)، أول أفلامه المنجزة "سرًّا"، مُهرَّب عبر "مفتاح USB" مخبّأ في قالب حلوى.
الخارج محتفلٌ به، خصوصًا في مهرجانات برلين و"كانّ" والبندقية. يختار منطّموها ما يصنعه لعرضه في مسابقة رسمية أو في برنامج اختيار رسمي. يريدونه عضوًا في لجان تحكيم، وعندما يعجز عن السفر بسبب منعه منه، يبقى مقعده شاغرًا أمام عدسات الفوتوغرافيين والتلفزيونيين. مع هذا، يستمرّ في بلبلة سلطة غير متمكّنة من تحقيق مُرادها. فمنذ عام 2010، يُحقّق بناهي 4 أفلام، بدءًا من "هذا ليس فيلمًا": هناك "بَرْدِه" (2013) و"تاكسي" (2015)، قبل "3 وجوه".
يتبلور المشروع السينمائي الجديد لجعفر بناهي، إنْ يصحّ تعبيرٌ كهذا، في "3 وجوه"، لكنه يبدأ في "تاكسي" تحديدًا: تحويل الكاميرا إلى عينٍ لاقطة، وأحيانًا إلى شخصية أساسية في البناء الدرامي لحكايات متفرّقة، يتناولها من أفواه أفرادٍ عاديين، يعكسون عبرها مواجع وأحلامًا معطّلة واختناقًا مدوّيًا. غليان الشارع، مثلاً، مادة غنيّة بوقائع عيشٍ على حافة الانفجار (تاكسي)، ومع كلّ انفجارٍ أو محاولة انفجار متمثّلة بحراك مدني شعبي، يزداد بطش السلطة، فيزداد لاحقًا الضغط والموانع والرفض.
يُعتبر "تاكسي" بداية عملية لمشروعٍ كهذا، سيكون المخرج نفسه أحد وجوهه البارزة أمام الكاميرا. ففيه، يقود بناهي سيارة أجرة واضعًا فيها كاميرات تصوير صغيرة الحجم، في أمكنة عديدة، ويُقلّ ركابًا مختلفي الانتماءات الاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصادية، ومالكي قصص واقعية عن أحوال عيش وانفعال ومسالك. المشروع قائم على جمع تلك الحكايات البسيطة لكن العميقة، وتلك الحالات العامة لكن الفردية والذاتية والمتشابهة في حجم خرابٍ يعتمل في نفوس وبيئات واجتماع. والحكايات كثيرة، منها تلك التي يجعلها نواة جوهرية لـ"3 وجوه"، الذي يصنعه كتحية حبّ للسينما وللتاريخ التمثيلي في إيران، ولعباس كياروستامي (1940 ـ 2016)، الذي سيكون بناهي مساعدًا له في أعمالٍ مختلفة.
القصّة الأصلية بسيطة: تستلم الممثلة المعروفة بهناز جعفري (تؤدّي دورها الحقيقي في الفيلم كممثلة تلفزيونية مشهورة) فيديو مُصوَّر بواسطة جهاز خلوي لشابّة أذريّة تُدعى مَرْزييه (مَرْزييه رضائي)، تطلب منها الإسراع في القدوم إليها في بلدتها الريفية في الشمال الغربي لإيران، لإنقاذها من بطش أهلها، الذين يمنعونها من دراسة التمثيل. لن تكون الرحلة طويلة، لأن الحدث سيكون داخل البلدة. الناس يتعرّفون سريعًا إلى الممثلة، وبعضهم غير منتبه إلى السينمائيّ. سطوة التقاليد واليوميّ المنغلق على نفسه في تلك البلدة يقفان حائلاً دون معرفة ما يريدان معرفته. رغم هذا، سيتمكّنان من كشف المسألة، ومن ترطيب الأجواء، ومن "إنقاذ" مَرْزييه من مصير قاتم.
هذا مفتوحٌ على تفاصيل كثيرة: هناك كلامٌ عن ممثلات منتميات إلى أجيال مختلفة، وهناك تعبير عن علاقة الناس بالتلفزيون، وهناك سلوك وثقافة ودقائق أمور تبدو هامشية لغير المنتمين إلى تلك البلدة. هذا كلّه يظهر عاديّا وبسيطّا، لكن الأهمّ كامنٌ في كيفية سرده بالكاميرا، وفي آلية كتابته وتحويل المكتوب إلى صُور تتيح للكاميرا تلك فرصة اختراق المبطّن في نفوس وأرواح: لقطات قريبة، وأخرى تُخفي أفرادًا يتكلّمون لتركيزها على لقطة أوسع يتمدّد فيها الكلام، أو يتناقض.
"في هذا الفيلم، نعثر مجدّدًا على السحر النقيّ كلّه للسينما الإيرانية. حازمًا برسالته الخاصّة بحرية الاختيار، يعيد "3 وجوه" مُشاهديه إلى أفلام كبيرة منتمية إلى سينما الحقيقة، كـ"الريح التي تأخذنا" لكياروستامي. هنا أيضًا، مدينيّ مُرسَل في مهمّة، يتوجّه إلى قرية بعيدة في الجبل، وهذه مناسبة لتوغّل في المعتقدات التقليدية المثبِطة للعزائم"، كما في تعليق نقدي لـ"هوليوود ريبورتر"، يختزل النص السينمائي بكامله. أما "راديو فاردا" (موقع إيراني ناطق باللغة الفارسية، مقرّه في براغ)، الذي يصف الفيلم بكونه "عملاً بسيطًا"، فيُشير إليه ـ في الوقت نفسه ـ كأحد أفضل الأفلام السجالية الانتقادية (للمجتمع الإيراني) في الأعوام القليلة الفائتة" ("لو كورييه أنترناسيونال"، 17 ـ 23 مايو/ أيار 2018).