أفلام "مهرجان تطوان الـ24": قتامة الصورة

06 ابريل 2018
"صلاة جنائزية للسيدة ج." لفولتيك (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
من تابع أفلام المسابقة الرسمية للدورة الـ24 (24 ـ 31 مارس/ آذار 2018) لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسّط" (المغرب)، وبغضّ النّظر عن اختلاف الرؤى، خرج بصورة إشعاعية غنيّة عن حالة الإنسان، في منطقة ترزح صورتها تحت سطوة التناول الإعلامي المشوَّه والمتسرِّع.

فالأفلام في أفضل حالاتها، حين تنسج طرحها وفق رؤية لا تبخس الزمن حقّه في النفاد إلى عمق الإنسان، والمشاكل التي تنحت واقعه اليومي، تشكّل ملجأ لا محيد عنه لفهم عالمنا، والأسئلة الملحّة التي يطرحها عيشنا فيه ومعه. 

هذا ما خبره جمهور تطوان في "أبينيدا"، الصالة السينمائية التاريخية الخلاّبة، وهو يكتشف ـ شيئًا فشيئًا ـ فسيفساء الأفلام الروائية المقبلة من دول حوض البحر الأبيض المتوسط، التي غلبت عليها رؤية قاتمة لأوضاع الإنسان المتوسّطي. قتامة أشار إليها السينمائي التونسي الناصر خمير، رئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية في هذه الدورة، في كلمة مقتضبة ألقاها في حفلة الختام: "انتظرنا طويلاً أن تشرق الشمس داخل الصالة. لكن الإشراقة جاءت من سماء تطوان الجميلة خارجها".



الإشراقة التي بحث عنها الناصر خمير ولم يجدها ألفيناها نحن في لقطة الختام من "صلاة جنائزية للسيدة ج." لبويان فولتيك (جائزتا "لجنة التحكيم الخاصة ـ محمد الركاب" و"لجنة النقد ـ مصطفى المسناوي")، حين شعّ نور ابتسامة الممثلة الكبيرة ميريانا كارانوفيتش في دور السيدة الخمسينية، بعد مسحة حزن واجمة لم تغادر محيّاها طيلة أحداث الفيلم، بينما كانت تبحث باستماتة عن سبيلٍ لمغادرة حياتها البائسة، قبل اكتشافها أن الرحيل بكرامة عن صربيا المعاصرة ليس أهون من العيش فيها.

عبر الحكي، المتقدم بفعالية وسلاسة بالغتين، وعبر تشكيل لقطات بديعة ـ توحي بأجواء كافكاوية لأعماق مجتمع متكلّس تحت ضغط البيروقراطية ولا آدمية الروابط الاجتماعية ـ استطاع المخرج فولتيك صنع فيلم متكامل، يمزج رؤية تراجيدية بنبرة سخرية جذّابة، تروي كيف أن الحياة تستحق أن تعاش رغم الصعوبات التي تكتنفها، من دون أي وازع بَرْهنةٍ أو خطاب رسائلي.

"أم مخيفة" للجورجية آنا أوروشادز (جائزة "أفضل عمل أول ـ عز الدين مدوّر") هو ثاني أفضل ما عرض في الدورة. فيلم انغماسي الأجواء، نغوص أثناءه في دواخل "منانة"، ربة بيت تتمزّق بين التزاماتها العائلية وشغفها بكتابة روايتها الأولى. "ضربة المعلّم" هنا تكمن في نجاح المخرجة في خلق ضبابية آسرة بين حدود المفاهيم الكامنة وراء رؤيتها الجمالية: المسافة بين نظرتنا من الخارج لحياة "منانة"، والرؤية الداخلية لهذه الأخيرة لكوابيسها، وكيفية كتابتها؛ ثم خطوط التماس التبئيرية بين التطرق إلى الإبداع (من خلال الأدب)، والإبداع بالسينما حول الأدب (من خلال الفيلم نفسه).



أما "بوليكسني" لدورا مسكالافانو (الجائزة الكبرى)، فتناول ـ بشكلٍ كلاسيكي ـ قصة شابّة تجد نفسها وسط مؤامرة للاستيلاء على إرثها بعد وفاة والدها بالتبنّي، فتحاول مقاومة هذه المؤامرة، مستعينة بالحب والعزيمة، رغم قسوة الظروف.

الفيلم الـ3 من أوروبا الشرقية "أصوات" لقسطنطين بوبيسكو: حكاية زوج تنقلب حياته رأسًا على عقب، بعد اختفاء ابنته أثناء لهوها في حديقة عامة. لكن المخرج لم يستطع التحليق عاليًا بطرحه، إذْ اتّسمت المعالجة بشيء من الإطناب والتكرار.

من ناحية أخرى، حاولت صوفيا جمعة، في فيلمها الأول "السعداء"، مقاربة المفعول الثقيل لـ"العشرية السوداء" (1991 ـ 2002) على حاضر عائلة جزائرية، عبر قصّة خلاف بين أبٍ يُصرّ على البقاء، وإصرار أمٍّ على الرحيل من البلد رفقة ابنها، ثم ضياع الأخير وأقرانه من الشباب بين متاهات الهوية ومطباتها. رغم بعض المشاهد الناجحة، لم يتمكّن الفيلم، إجمالاً، من تلافي فخّ النظرة الغرائبية (الجانب المتعلّق بالتديّن وأسئلته، خصوصًا)، وتوّج الفصل الأخير منه بنهاية متوقّعة ومتسرّعة.

"ولولة الروح" لعبد الإله الجوهري عَزَف بدوره على وتر الهوية، من خلال قصّة تجري في سبعينيات القرن الماضي، وتقتفي خيوط التحقيق في جريمة قتل، من طرف محقّق شاب التحق بالشرطة رغم تشبّعه بمرجعية فلسفية. الجميع على منوال "فن العيطة" الموسيقي المميّز لمنطقة "ورديغة"، التي تتخلّل الحكي وتقدّم له. لكن، رغم توفّقه في القبض على بعض الخلفيات الشعبية المؤسِّسة لثقافة "العيطة"، وقع الفيلم في فخّ التناول السطحي للجريمة والتحقيق، إذْ لم نشعر بمسحة قتامة الأجواء والغموض، التي يُفترض بها أن تسود الحكي. كما أن هيكلة الفيلم على منوال "العيطات" بدا مفتعلاً وميكانيكيًا، ما لم يساعد على الاندماج فيه، خصوصًا أن الاتكاء على الحوار كبير في التقدّم بالحبكة، بدل الاعتماد على الصورة والأجواء. من دون تناسي أنّ خط الحبكة الثانوية، التي تجري في "نادي الرماية"، شبه منفصل عن الحبكة الأساسية، ولم يقدّم لها أي شيء يُذكر.

من ناحية أخرى، وكما يقول الفرنسيون، فإنّ "كلّ شيء ينطوي على جانب سياسي". فالفيلمان المقبلان من الشرق الأوسط زاخران بالسياسة، بمعناها الأساسي، كما جرت العادة: "واجب" للفلسطينية آن ـ ماري جاسر (جائزة أفضل ممثل باسم محمد بسطاوي لمحمد بكري) من أفضل ما عرض في هذه الدورة، بفضل انسيابية إيقاعه، وغنى حكيه الذي يخلق المعنى على مستويات عديدة، رغم بساطة القصّة/ الذريعة ظاهريًا. رجلٌ ستيني فلسطيني يوزّع، رفقة ابنه العائد للتوّ من منفاه الأوروبي، دعوات إلى حضور عرس ابنته على أقارب ومعارف في الناصرة. تتوفّق المخرجة في التقاط تعقيد الأزمة الفلسطينية، بالتركيز على زخم التفاصيل والشخصيات الثانوية، وتنويع المواقف وردود الفعل المتباينة إزاءها، نظرًا إلى تباين موقفي الأب والابن حول معنى الالتزام بالقضية الفلسطينية اليوم.

الثاني "غداء العيد"، وهو الروائي الطويل الأول للّبناني لوسيان بورجيلي: فيلم مستقلّ وصادق، يضجّ حيوية وديناميكية، رغم أنه يجري بأكمله بين دفتي شقّة لبنانية.
المساهمون