عندما تتكامل عناصر النجاح، لا يبقى عائقٌ أمام تحقيقه سوى الحظ. لكن العناصر مفقودةٌ، دائمًا، في عقود ماضية، في الفيلم العراقي، الذي جذب الصغير من دون الكبير في كوميديته، والذي عَكَس تجارب "أدب الحرب" مع إيران في مضامينه، في أفلامٍ حربية بطلها واحد، ونتاجها معروف مسبقًا.
اليوم، نحن أمام تجربة مولودة من رحم معاناة تكاملية، تتنوّع بين التقشّف المالي، والجمهور الواسع والمحبّ للسينما. لكنها هوليوود، من دون علمهم أن ماكنتنا موجودة وتحتاج إلى من يُشغِّلها.
"الرحلة" لمحمد الدراجي، اسم على مسمّى. فالقصّة والغاية تدوران في رحلة مقصودة لا عبثية، بطلتها فتاة مشوَّشة الإيمان، تكسبها جماعات إرهابية وتجنّدها لتنفيذ عمل انتحاري في محطة قطار.
مسار العمل لا يجعل المُشاهد يخوض في تفاصيل شتى. فالمسلك واحدٌ، من البداية إلى النهاية، لعاملين مهمّين: الزمان والمكان. فالزمان يعود إلى أول أيام عيد الأضحى المبارك عام 2006؛ والمكان هو المحطة الرئيسية (المحطة العالمية)، حيث لسِعته وطابعه المهجور دلالة على الضياع أو الخوف، وهذه نقطة مهمّة في رصيد الفيلم. الحوار ليس طويلاً، فالعدسة تروي الحدث، وتتّجه إلى المسافرين. كأن الدراجي يحاول استحضار فيديريكو فيلّيني وواقعيته الجديدة في العصر الحالي. كاميرا تدور، وممثّلون يقفون ـ للمرّة الأولى على الأرجح ـ أمام عدستها، رغم أن الوجل والخوف ذائبان بعد محاولات تنفيذ المشهد، على ما يبدو. إلا أن ذكاء المخرج، في الارتكاز على جوهر القصة والموسيقى وحكايات المسافرين، يشدّ الأعين، ويغضّ الطرف عن المفترض.
حاول محمد الدراجي، وهو مؤلّف الفيلم أيضًا، أن يخلق العقدة أو الحبكة من الوهلة الأولى: سارة الانتحارية تترقّب كلّ مسافر وموجود في المحطة، من دون أن تعرف وجهاتهم. بشكلّ أدق، كانت تُظهر اللامبالاة في قسمات وجهها، حتى يلفت النظر شخص ممتلئ بالعبثية ومَرِحٌ يُدعى سلام، يتفنّن في المغازلة والتحرّش بالفتيات، ويعتاش على بيع أطراف صناعية مستعملة على أنها جديدة. هو نفسه يحاول اللحاق بسارة، لكنه يقع في ورطة كبيرة عندما يعلم أنها انتحارية.
تشبكه بحالتها، بوضعها قنبلة في جيبه، فتكون تلك اللحظة منعطفًا، ويبدأ التشويق، رغم أن الحاجة ملحّة إلى حوارٍ ثنائيّ مستمر بين السائل (سلام) والمُجيبة (سارة)، حول الدافع من تفجيرها نفسها. إلاّ أن المؤلف اختار حوارًا مُقتضبًا، جاعلاً الأمر يسير باتجاه نقطة تحوّل.
تتوالى أحداث "الرحلة" بشكل يسير. لا يحاول المخرج ـ المؤلّف جعلها مزدحمة، إلى أن تقع فتاة، تبلغ شهرين من عمرها فقط، بين أيديهما. يُصدَم سلام بوالدتها، المُلاحَقَة من عناصر الشرطة العراقية والجيش الأميركي. توحي الفتاة الصغيرة بالحياة والديمومة، وهي تبتسم طوال الوقت معهما.
تتوالى المشاهد البسيطة في العمل، والمُتقنة قياسًا بالواقع السينمائي المتواضع في العراق، حتى ذروة الفيلم. نقاطٌ فنية عديدة تحتاج إلى تحليل سريع: الموسيقى جميلة، تتداخل بين الواقع والخيال من خلال المشهد، وهذا افتقدناه في أعمالنا. المونتاج مُتقن إلى حدّ كبير. أسلوب التصوير متأثّر بعالم هوليوود، كذلك المؤثرات الصوتية، إذْ يُحْدِثُ صوت الباب، مثلاً، تأثيرًا على السمع، ويضيف إلى المشهد لمسةً من التشويق.
"الرحلة" باكورة عمل سينمائي عراقي، عرف المُشاهد العراقي بالدرجة الأولى أن له سينما فاته منها الكثير، وينتظر بعدها (الباكورة) الأكثر، من قصص الطائفية والحياة الاجتماعية الصعبة والهجرة والسياسة.