السينما والعنف في أميركا: "التعديل الثاني" أو "جماعات الضغط"؟

26 فبراير 2018
جيسيكا تشاستن في "الآنسة سلون" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
كعادتها، تنخرط صناعة السينما الأميركية، في هوليوود وخارجها، في أحوال بلدٍ واجتماع وناسٍ. منها، جرائم يرتكبها مراهقون، أو شبان في مقتبل العمر، في مدارس ثانوية، تُصبح مادة لنقاشٍ، يبدأ من حماية الدستور الأميركي للحقّ الفردي في اقتناء أسلحة فردية (التعديل الثاني)، ويتوزّع على علمي الاجتماع والنفس، ويُعرِّج على السينما والتلفزيون وألعاب الفيديو، ومدى تأثيراتها في ارتفاع حدّة العنف في المجتمع. 

جريمة 14 فبراير/ شباط 2018، في إحدى المدارس الثانوية في مقاطعة "برووارد" (جنوب شرق فلوريدا)، دافعٌ جديد إلى استكمال نقاشٍ لن يتوقّف، ما دام التعديل الثاني في الدستور الأميركي يتيح للفرد حق اقتناء الأسلحة، وما دامت حماية هذا التعديل "أقوى" من أي تعديل آخر: في ذلك اليوم، يدخل نيكولاس كروز (24 سبتمبر/ أيلول 1998) مدرسته الثانوية (المفصول منها لأسباب تأديبية)، حاملاً بندقية شبه آلية، ويُطلق النار على الجميع، فيقتل 17 شخصًا، في عملية "تُعتَبر الأسوأ منذ 25 عامًا". بعد إلقاء القبض عليه، يُشير محققون إلى أن منشوراته في وسائل التواصل الاجتماعي "مُقلِقة للغاية".

يؤكّد التعديل الثاني في الدستور (بحسب نسخة عام 1789، وتعديلاته لغاية عام 1992) على ما يلي: "حيث إن وجود قوات شعبية جيّدة التنظيم ضروريّ لأمن أية ولاية حرة، لا يجوز انتهاك حقّ الناس في اقتناء أسلحة وحملها". ورغم أن القانون الأميركي ينصّ على أنّ "شراء أسلحة بشكل قانوني يستلزم تحرّي "المكتب الفيدرالي للتحقيقات" عن بيانات سجل السوابق الجنائية للمشتري"، إلاّ أن الالتفاف على تلك الإجراءات متنوّع الأشكال، "إذْ يُمكن شراء الأسلحة والذخيرة عبر مواقع عديدة على شبكة الإنترنت، التي تُعدّ سوقًا ضخمة بأسعار متدنيّة"، كما تقول تقارير مختلفة، وتُضيف أن عاملاً آخر "يُسهِّل" التحايل والالتفاف، يتمثّل بـ"انتشار تهريب الأسلحة عبر الحدود المكسيكية، وعصابات المخدرات المسلّحة".



جرائم وأفلام
تُعيد جريمة "برووارد" إلى الأذهان شبيهتها الحاصلة في "المدرسة العليا في كولومباين" (ليتّلتون، كولورادو)، في 20 إبريل/ نيسان 1999، والمرتكَبة على أيدي المراهِقَين إيريك هاريس (9 إبريل/ نيسان 1981) وديلان كليبولد (11 سبتمبر/ أيلول 1981)، اللذين انتحرا بعد قتلهما 13 شخصًا وجرح 24 آخرين.
ولئن لا يزال الوقت باكرًا لمعرفة اهتمامات هوليوود بالجريمة الأخيرة، إلاّ أن جريمة "كولومباين" دافعٌ إلى تحقيق فيلمين اثنين (على الأقلّ): الوثائقي "بولينغ من أجل كولومباين" (2002) لمايكل مور (1954)، الفائز بجوائز الدورة الـ55 (15 ـ 26 مايو/ أيار 2002) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ، و"أوسكار" أفضل وثائقي طويل (2003)، و"سيزار" أفضل فيلم أجنبي (2003)؛ والروائي الطويل "فيل" (2003) لغاس فان سانت (1952)، الفائز بـ"السعفة الذهب"، في الدورة الـ56 (11 ـ 25 مايو/ أيار 2003) لمهرجان "كانّ"، وبجائزة الإخراج أيضًا.

فيلمان مثيران لنقاشٍ لن يبقى أسير الجرائم والدستور والسجالات الاجتماعية المختلفة. فالجماليات السينمائية فيهما أساس حبكةٍ متينة، في المجالين الوثائقي والروائي، تنبثق منها عوالم وفضاءات تعكس أحوالاً "قاتلة" في بيئة خصبة لنشوء أفعالٍ جُرمية مختلفة. وإذْ يذهب مايكل مور إلى المباشر، في مواجهته السينمائية الشرسة لنظامٍ متماسك في حمايته نصّاً دستوريًا يُتيح حركة بيعٍ وتجارة تدرّ ملايين الدولارات الأميركية، وتفرض ضغوطًا على إدارةٍ ومسؤولين لتمرير صفقاتٍ تجارية متنوّعة؛ فإن غاس فان سانت يستعين بمتخيّل بصريّ صائبٍ في إعادته تصوير الجُرم وتفاصيله الدقيقة، والسابق عليه أيضًا، في لقطات متتالية تبدو كأنها "لقطة واحدة"، وفي توغّله في حالات الهلع والاضطراب والعجز والبحث عن منافذ للنجاة، وفي إدانته المبطّنة والمواربة لتشريعٍ وأسبابٍ تؤدّي إلى ارتكاب أفعالٍ جُرمية كهذه.
يبقى "بولينغ من أجل كولومباين" (استخدام مفردة "بولينغ" في العنوان متأتٍ من تعبيرٍ يقوله مايكل مور في إحدى اللقطات الأخيرة من فيلمه، عندما يُشير إلى ممارسة المراهِقَين لعبة الـ"بولينغ" بين الثانية والسادسة فجر اليوم السابق على الاعتداء) أحد أهمّ الشهادات السينمائية الوثائقية، الهادفة إلى إدانة نظامٍ أميركي متكامل في مسألة اقتناء الأسلحة الفردية وبيعها وتجارتها استنادًا إلى حقّ دستوري، وإلى تفكيك الكيان الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للولايات المتحدّة الأميركية، خصوصًا أن مور معروفٌ بانتقاده الشرس هذا النظام نفسه، في أفلامٍ عديدة له، وفي مجالات حياتية مختلفة.
يرتكز "بولينغ من أجل كولومباين" على سؤال أساسيّ: لماذا عدد جرائم القتل، المنفَّذة بأسلحة نارية، أكثر ارتفاعًا في الولايات المتحدّة الأميركية من أي دولة أخرى؟". وهو، لهذا، يُقدّم إحصائية، على خلفية لقطات خاصّة بعنفٍ، ترتبط أميركا به، كحرب فيتنام (1955 ـ 1975) والانقلاب العسكري الدموي في تشيلي (11 سبتمبر/ أيلول 1973): 11 ألفًا و127 عملية في أميركا، بينما يتراوح العدد، في بلدان أخرى، بين 39 (اليابان) و381 (ألمانيا).


نقاشٌ مستمرٌّ
لكن مشهدًا أساسيًا يبقى الأكثر إثارة للتنبّه: يزور مايكل مور، برفقة فريق عمله التصويري، الممثل شارلتون هوستن (1923 ـ 2008)، في منزله، بصفته رئيسًا لـ"الجمعية الوطنية للبنادق" (1998 ـ 2003)، المدافعة الشرسة عن التعديل الثاني في الدستور الأميركي. ففي مقابل استفزازية مور، واتّهامه إياه بانعدام الإحساس لديه، ومطالبته بالاعتذار (على الأقلّ) من أهالي الضحايا، ينتفض هوستن رافضًا (بصمت) الخضوع لضغط كهذا، ويغادر مقعده مرتبكًا، فتلاحقه الكاميرا في ممرات المنزل، الأشبه بدهاليز ومتاهات، تبدو كأنها دهاليز هذه المسألة، ومتاهاتها.
أما "فيل"، فيبقى المتخيّل فيه مرآةً سينمائية لوقائع الفعل الجرمي، منذ ما قبل وصول المراهِقَين إلى مدرستهما، لكنه لن يُقدِّم "الحكاية الأصلية" بتسلسلها الكرونولوجي، ولن يُصوِّرها في الأمكنة الحقيقية للحدث. كأن غاس فان سانت، باعتماده أسلوب اللقطات المتتالية الأشبه بلقطة واحدة، يريد ممارسة مزيدٍ من الارتباك الانفعالي لدى المُشاهد، عائدًا معه إلى "الجذور" المؤدّية بالمُراهِقَين إلى ارتكاب أفعال "شنيعة" كهذه: غياب الأهل، ارتباكات المراهَقَة، تسهيلات بيع الأسلحة، ألعاب الفيديو (إطلاق نار يقوم به شخص/ لاعب واحد)، الاعتداءات المتنوّعة لرفاق الحيّ وزملاء المدرسة، وغيرها من أسباب مثيرة لنقاشٍ إضافيّ.
لن يتوقّف النقاش حول انتشار الأسلحة الفردية في المجتمع الأميركي، ما دام إطلاق الرصاص داخل المدارس وخارجها مستمرٌّ في إقلاق راحة المواطنين وأمنهم. ولن تتوقّف أفعال القتل المدرسيّ وغير المدرسيّ، على أيدي أفراد "مدجّجين" بأسلحة فردية متنوّعة ومتطوّرة، ما دام التشريع الأميركي يصون حرية الفرد في اقتنائها.
غير أن حماية حق امتلاك الأسلحة الفرديّة لن تكون محصورة بالتعديل الثاني فقط، لأن جماعات ضغط عديدة تبدو كأنها الحصانة الأقوى في مواجهة خطوة أو مشروع أو فكرة، تلتقي كلّها عند العمل على إصدار قوانين جديدة للحدّ من انتشار هذه الأسلحة. ولعلّ أبرز "لوبي" في هذا المجال كامنٌ في "الجمعية الوطنية للبنادق" (1871)، التي تُقدِّم نفسها كـ"جمعية أميركية غير ربحية"، معنيّة بـ"حماية الحقوق المدنيّة"، تهدف إلى "تعزيز الأسلحة النارية في الولايات المتحدّة الأميركية"، وإلى "الدفاع عن تفسير غير مُقيَّد للتعديل الثاني" في الدستور الأميركي، و"عن التجارة الحرّة للأسلحة النارية، والتدريب على البقاء على قيد الحياة، ومهارات الرماية، ورياضات إطلاق النار".
وإذْ يختار مايكل مور مواجهة هذه الجمعية، عبر رئيسها آنذاك شارلتون هوستن، في "بولينغ من أجل كولومباين"، فإن السينما تتناول واقع "جماعات الضغط" المتنوّعة الأهداف وأساليب العمل، في أفلامٍ يحاول صانعوها تبيان آليات الجماعات، وكيفية اشتغالها وسيطرتها.

تفكيك جماعات الضغط
لعلّ "الآنسة سلون" (2017) لجون مادن (1949)، أفضل نموذج سينمائي بديع عن واقع "قذر" كهذا. وفيه، تؤدّي جيسيكا تشاستن (1977) دور سيدة تُدعى مادلين إليزابيث سلوان، المعروفة بكونها إحدى أكثر العاملات في مجال "جماعات الضغط" شهرةً وقوّة ونفوذًا ونجاحًا في واشنطن. لذا، يُطلَب منها العمل لصالح "لوبي" خاصّ بالأسلحة، لتنظيم حملة ضد مشروع قانون، يسمح بمراقبة أشدّ لحركة بيع الأسلحة الفردية، بناءً على "المعطيات النفسية للمشترين". لكنها، بعد رفضها القيام بهذا الأمر، تنتقل إلى فريقٍ آخر يسعى إلى تشريع قانون لهذه الرقابة.
الصراع بين الطرفين يكشف أهوالاً كثيرة في البناء الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ السياسي، ويفضح الأساليب الدنيئة التي يعتمدها كثيرون في حملاتهم، ويُقدّم نموذجًا لقوّة "لوبي" الأسلحة الفردية في النظام المتحكّم في إدارة الأمور كلّها في أميركا. والشكل السينمائيّ، المعتمد على توليف يصنع إيقاعًا سريعًا لا متسرّعًا، ومتين الصنعة الدرامية والسردية والأدائية، يُقابِل كتابة مهمومة بمسائل جانبية، تدعم جوهر الحكاية، بتعريتها أحوال أفرادٍ يعانون أهوال المهنة والعنف العام في آنٍ واحد.


والفيلم، إذْ يتابع سيرة "الآنسة سلون" في مهنتها وحياتها الخاصّة (ضغوط العمل تؤدّي إلى حياة سرّية للتنفيس عنها)، يكشف شيئًا من أساليب عمل "جماعات الضغط"، حيث تنعدم الأخلاقيات العامة والفردية لمصالح أكبر وأخطر. كما أنه "يؤكّد" على استحالة إجراء أي تعديل على "التعديل الثاني"، وعلى إصدار أي قانون يُلغي "الحقّ الفرديّ في امتلاك الأسلحة". كما أنه يضع الشخصية الأساسية في مواجهة نفسها، بسبب نمط اشتغالها في مهنةٍ، تتطلّب "تجرّدًا كاملاً" من كلّ حساسية إنسانية. فسلوان لن تتردّد، إطلاقًا، عن استغلال أي معلومة أو فكرة أو شخص أو مسألة، بهدف تحقيق ما تصبو إليه، وإنْ يكن هذا على حساب أناسٍ يعملون معها.
أفلامٌ كهذه ـ مأخوذة من وقائع حيّة ـ تؤكّد أنّ أميركا ستبقى أكثر البلدان خضوعًا لحالات عنفٍ، تولِّد مزيدًا من الجرائم، المرتكبة على أيدي حاملي أسلحة فردية، يحميهم التعديل الثاني وجماعات الضغط أولاً، وهم المقيمون في أحوال اجتماعية وإنسانية وحياتية مرتبكة.
المساهمون