تحت سماءِ مساءٍ تبرق فيه الأنوار من كلّ لون، أمام الآلاف من الشبيبة المنتشين رقصاً وتهليلاً، وعلى نبض إيقاعات "التكنو" الصاخبة، المصاحبة لصوت مزمار "المجوز"، يُطلّ عمر سليمان على الجموع بدشداشته ومن خلف شنب أسود ونظارة شمسية، معتمراً شماغه، متأبطاً ميكروفونه، يمشي الهوينا. يتحرك بوقارٍ يتردد ما بين الحياء والذكورة.
يرفع كفّيه في الهواء، كمن يُحرّك الدمى، لتعلو بهما زنودُ الصبايا. يُسبلهما، فتنتصب شاشات المحمول عالياً، تلتقط عدساتها الحسكاوي الأسمر، الذي صار، بين ربيع عربي وخريف، سفيراً للأغنية السورية في أصقاع الكرة الأرضية.
تبدو الشخصية التي يُقدمها عمر سليمان، من دون قصد على الأرجح، استعادةً لما ارتبط في الذهنية الجمعية للشعوب العربية، منذ الاستقلال، بصورة "الحاكم"، والتي من المفترض أن الأحداث التي عصفت بالمنطقة منذ عام 2011، قد أتت لتقويضها وإعلانها حقبة منتهية.
بيد أنه، ومع ولادة تيار "الثورة المضادة"، من رحم الفوضى والقمع الدموي، عاد الشارع المنهك ليتوق إلى زعيم يُعيد له الأمن والأمان، مؤجِّلاً الكرامة والحرية.
في هذا السياق، ترسم صورة عمر سليمان: من جهة، كاريكاتوراً للماضي، ومن جهة أخرى، تُمثّل ثقافياً، المرحلة التي تلت النضال السلمي، أيام ميدان التحرير في القاهرة، مروراً بتظاهرات البيضاء في ليبيا، وصولاً إلى اعتصامات دُوّار الساعة في حمص السوريّة. وبالتالي، هي أشبه بنوستالجيا رجعية، نكوصيّة، تنعى ما كان، وتعيده في آن. نوستالجيا تُنهي سيرورة التغيير، عن طريق إسقاطٍ شعبي على الراهن، من خلال الفولكلور، تخلّياً عن مطلب إسقاط النظام.
من باب آخر، فإن التربة الذي نبتت فيها أغاني عمر سليمان، وغيره من مُغني "الليل"، كسارية السواس، وشعبان عبد الرحيم، وداود العبدالله، هي أيضاً لمِن مقدّمات الحدث العظيم، الذي أتى بسليمان إلى الواجهة.
فموجة الغناء الشعبي تلك، راجت في العقد الأول من القرن الحالي، مع اتساع الهوّة بين الغني والفقير، المركز والهامش، الريف والحضر. وقد شكّل هذا السمة الأساس لحقبة لبرلة الاقتصاد، بالتسليع والفساد، خصوصاً عند الأنظمة العربية، اشتراكية الهوى، كسورية والعراق ومصر. مرحلةٌ بدأت بعد انهيار جدار برلين، ومعه المعسكر الشرقي دولياً. وإقليمياً، بغزو العراق للكويت، واندلاع حرب الخليج الثانية.
كان من أهم وأخطر المآلات الاجتماعية لهذه المرحلة، انقراض الطبقة الوسطى التدريجي، وانحسار ذائقتها الفنية، وصعود ثُنائية ملاهي الفجور والترف وعشوائيات الفقر والبطالة.
العلامة ذاتها التي أذُنت، مع جملة من العلامات والإشارات، بانتفاضات عارمة، تمخّض عنها ظهور تلك الفئات المهمّشة إلى العيان، التي ستجتاح الميدان، وتتصدر المشهد، وستُصبح وقوداً للعنف والتطرّف، تحت مختلف الرايات، وباسم كل الشعارات والعقائد.
أما أمر شهرة عمر سليمان عالمياً، واحتفاء الجمهور الغربي به أيما احتفاء، فلا يعدو كونه استطراداً لمسألة صعوده محلياً.
فالغرب عموماً، من رأي عام، إلى مثقفين ودوائر صنع قرار، أبدى تحفظاً ومنذ البداية، إزاء قدرة العرب على إحداث أي تغيير ذي قيمة تاريخية، أو الأخذ بزمام مصيرهم والتحرك من أجل قلب الوضع السائد، والذي تطرّق إليه الصحافي الأميركي المحافظ توماس فريدمان في كتابه "العالم مسطّح"، الصادر عام 2005، حين شبّه العالم العربي بالزقاق العتِم في القرية الصغيرة، التي اسمها كوكب الأرض.
لذا، لم يتحمّس الغرب لتبنّي المصري رامي عصام مثلاً، والملقّب بمغني الثورة، أو الإضاءة على الصورة العابرة للجنس والطبقة والطائفة، التي رسمها ثنائي عبد الباسط الساروت والراحلة فدوى سليمان، أيام اعتصامات حمص السلمية.
في المقابل، فإن ظاهرة عمر سليمان ثقافياً، ومن منظور السيّد الغربي، جسّدت مرحلةً تحوّل فيها الربيع العربي، وهذا مصيره "الدارويني" (نسبة إلى نظرية "دارون" في الاصطفاء الطبيعي)، من ثورة من أجل التغيير والتحرر، إلى كارثة أنتجت آفة إرهاب وأزمة لجوء أرّقت العالم.
اقــرأ أيضاً
وما صورة عمر سليمان ضمن هذا الإطار، بزيّه التقليدي، الغريب كلياً، وغير المنسجم مع بيئة المسرح الذي يقف عليه، والجمهور الذي يغنّي له، وكأنه مقحم على المشهد بتقنيّة اللصق collage، سوى إنتاج لصورة العربي الأصلي authentic، العصيّ على الاندماج. وعليه، يُدعّم عمر سليمان الرواية الغربية عن الوافد المشرقي، "الآخر"، الدخيل على قيم المجتمع الحديث، وصعوبة، إن لم تكن استحالة، تأقلمه ثقافياً مع الحاضنة الحضارية الجديدة.
لطالما نظر الغرب، أو المؤسسة المحركة لرأيه العام، Establishment، إلى إسهامات المجتمعات الكولونيالية - العربية منها، في معرض هذا المقال - على أنها لا تعدو كونها مصادر طبيعية، مواد ثقافة خاماً، يجري تكريرها وتصفيتها وإعادة تشكيلها، ومن ثم توظيفها في إبداعات مُركّبة، يُشرف عليها نجوم غربيون كبار، من أمثال الأيسلندية بيورك Bjork مثلاً، أو الانكليزي ديمون ألبارن من فرقة غوريلاز Gorillaz.
كل منهما - بيورك وغوريلاز - تعاون مع عمر سليمان في إنتاج أغانٍ وطباعة أسطوانات، حيث يشكّل سليمان هنا، عيّنة ثقافية Sample. تماماً كما يُبرمج صوت مزمار "المجوز" إلكترونياً، كعيّنة صوتية داخل آلة لوح مفاتيح كهربائية Keyboard بالغة التعقيد، من صنع شركات عالمية رائدة، مثل Korg أو Yamaha يقتنيها عازف شعبي بارع كحسن العلو، عازف الأورغ المصاحب لسليمان، ليقوم بلعب المجوز إلكترونياً، إضافة إلى تحريك باقة من إيقاعات متنوعة، يتحكم بها عبر الآلة نفسها، بأسلوب الـDJ. يقوم، بذلك، وبواسطة جهاز واحد، أو اثنين على الأكثر، مقام فرقة موسيقية كاملة.
لقد أعادت الثورات العربية الشرق الأوسط إلى دائرة النشاط التاريخي، سواء من خلال مشهدية الحراك السلمي، أيام الربيع الأُوَل، أو ما أعقبه من اقتتال أهلي وتدفّق للاجئين، إضافةً إلى تعاظم خطر الإرهاب العابر للحدود.
اقــرأ أيضاً
تلك الصدارة في السنوات الخمس الأخيرة، اقتضت أن يكون للعرب صوتٌ على الساحة الدولية. كان عمر سليمان الخيار الأمثل، بما حققه، ببساطة وعفوية، من تماشٍ يبلغ حد التطابق، مع الصورة النمطية للعربي في المخيال الاستشراقي. خذ مثلاً اختياره ليغني في حفل توزيع جوائز "نوبل" في استوكهولم عام 2014.
وعلى المقلب الآخر، كان، وباللاأدريّة نفسها، خيار الثورة المضادة أيضاً، التي ما زالت تؤكد على سمة التهافت، سواء في الإعلام أو في الفن أو الثقافة، كمآل الآمال التي عُلقّت على التغيير الديمقراطي، فدُحضت في مختلف المجالات، في الأمن والاقتصاد، والأغنية. لتمسي، وإن إلى حين، نكسة العرب الثانية.
يرفع كفّيه في الهواء، كمن يُحرّك الدمى، لتعلو بهما زنودُ الصبايا. يُسبلهما، فتنتصب شاشات المحمول عالياً، تلتقط عدساتها الحسكاوي الأسمر، الذي صار، بين ربيع عربي وخريف، سفيراً للأغنية السورية في أصقاع الكرة الأرضية.
تبدو الشخصية التي يُقدمها عمر سليمان، من دون قصد على الأرجح، استعادةً لما ارتبط في الذهنية الجمعية للشعوب العربية، منذ الاستقلال، بصورة "الحاكم"، والتي من المفترض أن الأحداث التي عصفت بالمنطقة منذ عام 2011، قد أتت لتقويضها وإعلانها حقبة منتهية.
بيد أنه، ومع ولادة تيار "الثورة المضادة"، من رحم الفوضى والقمع الدموي، عاد الشارع المنهك ليتوق إلى زعيم يُعيد له الأمن والأمان، مؤجِّلاً الكرامة والحرية.
في هذا السياق، ترسم صورة عمر سليمان: من جهة، كاريكاتوراً للماضي، ومن جهة أخرى، تُمثّل ثقافياً، المرحلة التي تلت النضال السلمي، أيام ميدان التحرير في القاهرة، مروراً بتظاهرات البيضاء في ليبيا، وصولاً إلى اعتصامات دُوّار الساعة في حمص السوريّة. وبالتالي، هي أشبه بنوستالجيا رجعية، نكوصيّة، تنعى ما كان، وتعيده في آن. نوستالجيا تُنهي سيرورة التغيير، عن طريق إسقاطٍ شعبي على الراهن، من خلال الفولكلور، تخلّياً عن مطلب إسقاط النظام.
من باب آخر، فإن التربة الذي نبتت فيها أغاني عمر سليمان، وغيره من مُغني "الليل"، كسارية السواس، وشعبان عبد الرحيم، وداود العبدالله، هي أيضاً لمِن مقدّمات الحدث العظيم، الذي أتى بسليمان إلى الواجهة.
فموجة الغناء الشعبي تلك، راجت في العقد الأول من القرن الحالي، مع اتساع الهوّة بين الغني والفقير، المركز والهامش، الريف والحضر. وقد شكّل هذا السمة الأساس لحقبة لبرلة الاقتصاد، بالتسليع والفساد، خصوصاً عند الأنظمة العربية، اشتراكية الهوى، كسورية والعراق ومصر. مرحلةٌ بدأت بعد انهيار جدار برلين، ومعه المعسكر الشرقي دولياً. وإقليمياً، بغزو العراق للكويت، واندلاع حرب الخليج الثانية.
كان من أهم وأخطر المآلات الاجتماعية لهذه المرحلة، انقراض الطبقة الوسطى التدريجي، وانحسار ذائقتها الفنية، وصعود ثُنائية ملاهي الفجور والترف وعشوائيات الفقر والبطالة.
العلامة ذاتها التي أذُنت، مع جملة من العلامات والإشارات، بانتفاضات عارمة، تمخّض عنها ظهور تلك الفئات المهمّشة إلى العيان، التي ستجتاح الميدان، وتتصدر المشهد، وستُصبح وقوداً للعنف والتطرّف، تحت مختلف الرايات، وباسم كل الشعارات والعقائد.
أما أمر شهرة عمر سليمان عالمياً، واحتفاء الجمهور الغربي به أيما احتفاء، فلا يعدو كونه استطراداً لمسألة صعوده محلياً.
فالغرب عموماً، من رأي عام، إلى مثقفين ودوائر صنع قرار، أبدى تحفظاً ومنذ البداية، إزاء قدرة العرب على إحداث أي تغيير ذي قيمة تاريخية، أو الأخذ بزمام مصيرهم والتحرك من أجل قلب الوضع السائد، والذي تطرّق إليه الصحافي الأميركي المحافظ توماس فريدمان في كتابه "العالم مسطّح"، الصادر عام 2005، حين شبّه العالم العربي بالزقاق العتِم في القرية الصغيرة، التي اسمها كوكب الأرض.
لذا، لم يتحمّس الغرب لتبنّي المصري رامي عصام مثلاً، والملقّب بمغني الثورة، أو الإضاءة على الصورة العابرة للجنس والطبقة والطائفة، التي رسمها ثنائي عبد الباسط الساروت والراحلة فدوى سليمان، أيام اعتصامات حمص السلمية.
في المقابل، فإن ظاهرة عمر سليمان ثقافياً، ومن منظور السيّد الغربي، جسّدت مرحلةً تحوّل فيها الربيع العربي، وهذا مصيره "الدارويني" (نسبة إلى نظرية "دارون" في الاصطفاء الطبيعي)، من ثورة من أجل التغيير والتحرر، إلى كارثة أنتجت آفة إرهاب وأزمة لجوء أرّقت العالم.
لطالما نظر الغرب، أو المؤسسة المحركة لرأيه العام، Establishment، إلى إسهامات المجتمعات الكولونيالية - العربية منها، في معرض هذا المقال - على أنها لا تعدو كونها مصادر طبيعية، مواد ثقافة خاماً، يجري تكريرها وتصفيتها وإعادة تشكيلها، ومن ثم توظيفها في إبداعات مُركّبة، يُشرف عليها نجوم غربيون كبار، من أمثال الأيسلندية بيورك Bjork مثلاً، أو الانكليزي ديمون ألبارن من فرقة غوريلاز Gorillaz.
كل منهما - بيورك وغوريلاز - تعاون مع عمر سليمان في إنتاج أغانٍ وطباعة أسطوانات، حيث يشكّل سليمان هنا، عيّنة ثقافية Sample. تماماً كما يُبرمج صوت مزمار "المجوز" إلكترونياً، كعيّنة صوتية داخل آلة لوح مفاتيح كهربائية Keyboard بالغة التعقيد، من صنع شركات عالمية رائدة، مثل Korg أو Yamaha يقتنيها عازف شعبي بارع كحسن العلو، عازف الأورغ المصاحب لسليمان، ليقوم بلعب المجوز إلكترونياً، إضافة إلى تحريك باقة من إيقاعات متنوعة، يتحكم بها عبر الآلة نفسها، بأسلوب الـDJ. يقوم، بذلك، وبواسطة جهاز واحد، أو اثنين على الأكثر، مقام فرقة موسيقية كاملة.
لقد أعادت الثورات العربية الشرق الأوسط إلى دائرة النشاط التاريخي، سواء من خلال مشهدية الحراك السلمي، أيام الربيع الأُوَل، أو ما أعقبه من اقتتال أهلي وتدفّق للاجئين، إضافةً إلى تعاظم خطر الإرهاب العابر للحدود.
تلك الصدارة في السنوات الخمس الأخيرة، اقتضت أن يكون للعرب صوتٌ على الساحة الدولية. كان عمر سليمان الخيار الأمثل، بما حققه، ببساطة وعفوية، من تماشٍ يبلغ حد التطابق، مع الصورة النمطية للعربي في المخيال الاستشراقي. خذ مثلاً اختياره ليغني في حفل توزيع جوائز "نوبل" في استوكهولم عام 2014.
وعلى المقلب الآخر، كان، وباللاأدريّة نفسها، خيار الثورة المضادة أيضاً، التي ما زالت تؤكد على سمة التهافت، سواء في الإعلام أو في الفن أو الثقافة، كمآل الآمال التي عُلقّت على التغيير الديمقراطي، فدُحضت في مختلف المجالات، في الأمن والاقتصاد، والأغنية. لتمسي، وإن إلى حين، نكسة العرب الثانية.