حرية الصحافة في الدراما السورية من حين إلى آخر

29 نوفمبر 2018
من سلسلة "البعث" لـ جابر عظمة (موقع الفنان)
+ الخط -
رغم أن الحديث عن حرية الصحافة في سورية هو ضرب من الهزل، بالقياس إلى أن سورية تحتل المركز الأخير عربياً، وهي من بين أسوأ خمس دول عالمياً، في مؤشر الصحافة لمنظمة "مراسلون بلا حدود" لهذه السنة، ولم يكن حالها أفضل بكثير في العقود الماضية. مع ذلك، تجد الدراما السورية تقوم بمعالجة قضية حرية الصحافة من حين إلى آخر، وتجد شخصية "الصحافي" حاضرة دائماً في المسلسلات السورية. 

في التسعينيات، كان يتم تصوير الصحافة الحرة باعتبارها عملاً تشوبه المخاطر، ويعرّض ممارسيه إلى مشاكل جسيمة، كما هو الحال بشخصية رامز (ميلاد يوسف) في مسلسل "عودة غوار"، الذي يلعب دور صحافي يبحث عن الحقيقة، ويتعرض للأذى بسبب ذلك. ولكن أي حقيقة كان يبحث عنها رامز؟ وما هو الأسلوب الذي قاده للهاوية؟ هو ببساطة كان يقوم بالبحث بجريمة قتل ارتكبها رجال أعمال معروفون في الماضي، وكتب عن القضية كقصة من العصر العباسي، رغم استخدامه للأسلوب الرمزي وعدم إمضائه على النصوص المنشورة باسمه، لكنه لم يضمن السلامة؛ ليؤدي المسلسل إلى ترهيب الناس من مزاولة هذه المهنة، ناهيك عن كون المسلسل يبرئ الدولة من جريمة كم الأفواه، وينسب المشكلة القائمة إلى رجال الأعمال.

كانت الدراما تحاول أن ترمي مسؤولية انعدام حرية الصحافة على الشعب. ففي إحدى حلقات "مرايا 99"، يؤدي ياسر العظمة شخصية إعلامي يقدم برنامج "صوت الناس"، ويقوم بنقد جميع مسؤولي البلد من دون حساب، فيتعامل معه الناس كبطل شعبي، ولكن اختفاءه لأيام جعلهم يقلقون، ويعتقدون باطلاً أن الحكومة السورية قد قامت بتصفيته؛ فيتراجعون عن دعمه، ويجمع أصحابه ورفاقه على أنه كان مخطئاً؛ ليبدو أن مشكلة حرية الصحافة مقترنة بالخطوط الحمراء التي يفرضها المجتمع، وإن كان مسلسل "مرايا" يعتبر الأكثر جرأة في تلك المرحلة بتبيان طبيعة الخوف الشعبي المبني على طغيان أجهزة الأمن.



في بداية الألفية الجديدة، بعد رحيل حافظ الأسد، اتسعت المساحة بين الخطوط الحمراء قليلاً وارتفع سقف المسموح في الدراما السورية، فقدمت العديد من المسلسلات حكايات حول الصحافة والقمع ومشكلة حرية الصحافة؛ وقد يكون مسلسل "الخيط الأبيض" (2005) أحد أبرز المسلسلات التي تناولت قضايا الصحافة في الدراما السورية في تلك الفترة، على الرغم من أن بنية العلاقات في المؤسسات الإعلامية، وشكل البرامج المقدمة ومضمونها هو غريب على الدراما السورية، بل هو أقرب لنموذج الإعلام اللبناني، الذي يعتبر أكثر انفتاحاً.
بعيداً عن هذه الثغرة، فإن "الخيط الأبيض" يبين من خلال حبكة درامية جيدة طبيعة العلاقة بين السلطة والإعلام ورأس المال، والأساليب التي تلجأ إليها السلطة لحراسة المنافذ الإعلامية من قمع وتهميش؛ وينتهي العرض بالتراضي ما بين الأطراف المتصارعة لتستمر المعركة بين الإعلام والسلطة ظاهرياً وتحل الأمور تحت الطاولة.

وبعد اندلاع الثورة السورية، فتحت المزيد من الأفق لكسر الخطوط الحمراء في الدراما السورية، فأصبح من الوارد مشاهدة رجال فاسدين في القيادة العليا بالحكومة السورية، كما يحدث في مسلسل "الولادة من الخاصرة"، ولكن محاربة الفساد حسب هذه الأعمال بدا وكأنه لا يتم من خلال الصحافة، بل من خلال الضباط الشرفاء، لتبدو قضية الفساد شأناً داخلياً يجب ألا يصل إلى الإعلام، كما يتضح من حوار الضباط الأشراف في الجزء الثاني من المسلسل.
وفي السنة نفسها 2012 عُرض مسلسل "بنات العيلة" الذي يتمحور حول العاملين في مجال الإعلام، ويحاول المسلسل أن يوصل رسالة مفادها أن الصحافة الترفيهية هي أفضل ما يقوم به الصحافي، وأن الابتعاد عن القضايا الشائكة سيضمن للعاملين في هذا النطاق حياة أفضل، حيث يتعرض الصحافي المشاكس (قيس الشيخ نجيب) للضرب والترهيب والتهميش من قبل السلطات الأمنية لفتحه ملفات غير مرحب بها بالإعلام السوري، ولكنه يحقق الرضا والسعادة بعدما يُرغم على تقديم برنامج "صباح الخير"؛ الأمر الذي يجعله يدرك أهمية الصحافة الترفيهية التي تبحث عن سعادة الناس بدلاً من البحث عن الحقيقة.

وبعد أن مضت أعوام على الثورة السورية، وتحولت الدراما الوطنية لأداة لتلميع صورة النظام السوري، فإن الدراما مالت لتصوير الصحافة الحرة بوصفها حليفة، فهي تحمل أهداف وهموم تتقاطع مع الأجهزة الأمنية الحريصة على مصلحة الوطن والقضاء على الفساد. ففي مسلسل "أحمر" (2016)، تلعب سلاف فواخرجي شخصية الصحافية "سماح"، التي تشاكس وتعاند لتصل إلى الحقيقة، وأثناء إجرائها لتحقيق صحافي تكتشف أنها تسير جنباً إلى جنب مع أجهزة الدولة الأمنية التي تسعى لتحقيق ذات الهدف، وتفضي هذه العلاقة الغرائبية بين أجهزة الدولة والصحافة الاستقصائية الحرة إلى زواج سماح من أحد عناصر الأمن (يامن الحجلي).

وبعد هذه الرحلة التي خاضتها الصحافة الاستقصائية في الدراما السورية، تعود اليوم الحلقة إلى نقطة البداية، فمسلسل "سايكو" الذي عُرض مؤخراً، تتمحور حكايته حول صحافية تمكنت من جمع وثائق تفضح بها قضايا الفساد ووضعتها على قرص صلب (سي دي)، الذي تقام حروب هزلية للحصول عليه وإخفائه؛ ولكن ما هي المعلومات الموجودة على هذا القرص الصلب؟ ومن الذي يحاربها وكيف؟ إن المعلومات تبقى مبهمة، والجهات التي تحارب لمنع تسريب المعلومات هم رجال الأعمال، والطريقة التي تقوم بمحاربة الصحافة فيها هي وضع الصحافية في مستشفى المجانين، ليقوم "سايكو" بتبرئة الحكومة السورية بطريقة لم تحدث من قبل، فالاستعاضة عن رجال الشرطة بالبلطجية، والاستعاضة عن السجون وأفرع المخابرات بمشفى المجانين هو محاولة واضحة لطمس معالم السلطة القمعية في سورية.
المساهمون