يوميات مهرجان سينمائي في القاهرة: لا لـ"شبشب"...نعم للتفتيش

24 نوفمبر 2016
أمورٌ كهذه لا تحدث إلا في القاهرة (نديم جرجورة)
+ الخط -
لم تنتبه السيّدة المصرية إلى أن "زمن" الدورة الـ 38 (15 حتى 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) لـ "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، بات في "ساعاته" الأخيرة، وإلى أنّ كلّ قرارٍ جديد يصدر عن إدارته، وهذا أمرٌ لافت للانتباه أيضاً، لن يؤثّر كثيراً على واقع الحال. 


فهي تريد توضيح أمرٍ، تراه ضرورياً، لشابٍ متطوّع، أراد أن يتسلّى لـ 10 أيام، جالساً أمام جهاز كمبيوتر، ملبياً طلبات راغبين في مشاهدة أفلام المسابقات والبرامج المتنوّعة. والأمر هذا، بالنسبة إليها، أساسيّ، بينما هو، بهدوءٍ لا يتلاءم، عادةً، مع حيوية الشباب وحماساتهم المختلفة، يُجيبها بأنه يُطالب، مثلها، بإلغاء القرار المُزعج لها، مشيراً إليها ـ في الوقت نفسه ـ بأن المسألة ليست بيده، وبأن كلّ شيء بات في "حُكم" المنتهي.

يحدث هذا قبل يومين اثنين على انتهاء الدورة الـ 38 تلك. القرار المذكور مُعلَّقٌ على زجاج الغرفة التي يجلس فيها الشاب، الذي يعمل على حجزٍ مسبق للمقاعد، وهذا أمرٌ يحدث للمرة الأولى في التاريخ الحديث للمهرجان.


والقرار يمنع أيّاً كان من دخول أية قاعة من قاعات "دار الأوبرا المصرية" ـ المخصّصة بعروضٍ متفرّقة لأفلام مُشاركة في المسابقة الرسمية، وفي البرامج الأخرى ـ إنْ كان منتعلاً الـ "شبشب" أو الـ "صندل"، أو مرتدياً الـ "شورت".

السيدة المصرية تبحث عن حلّ لهذا اللغز، أو ربما عن فهمٍ له. تقول للشاب إنّ آنسات وسيدات كثيرات ينتعلن الـ "شبب" أو الـ "صندل"، وأنهنّ بهذا القرار يصبحن محرومات من حضور الأفلام المختارة. يبتسم الشاب، ويحلف لها بأنه رافضٌ القرار مثلها. تستمر في التعليق، مع أنه يُخبرها بقرب موعد انتهاء الدورة الأخيرة.


والمشهد برمّته، إذْ يُكثِّف نمطاً من علاقة قائمة بين المتفرّجين وأفلام السينما، يأتي في سياق أحوال بيئة اجتماعية، لن تكترث بطقوسٍ سينمائية، طالما أن الحجّة الرئيسية لديها كامنةٌ في أولوية المُشاهدة. أحوال بيئة تقول بشيء من حرية امتلاك حق انتعال ما يُريح القدمين أو الجسد، في مجتمعٍ محافظ ومتديِّن كالمجتمع المصريّ.

والأولوية هذه جزءٌ من "طقوس" شعبية، تُعاكس، أو تناقض، الطقوس الأساسية لفعل المُشاهدة السينمائية. إذْ لن يأبه متفرّجون كثيرون بكلّ ما له علاقة بالطقوس الأخيرة تلك، فيدخلون القاعة المعتمة بعد بدء الفيلم إما بدقائق قليلة، أو بأكثر من 40 دقيقة أحياناً، مثيرين جلبةً في الحالتين؛ ويهتمّون بهواتفهم الخلوية، مضيئين شاشاتها في قلب عتمة السينما، غير آبهين بإزعاجٍ يُحدثونه للمُشاهد السينمائي الأصيل.

في الحالة هذه، يصعب على المُهتمّ معرفة الدافع الحقيقي لدخول هؤلاء إلى القاعات، وهم لا يأبهون ولا يعرفون ولا يكترثون بما يجري فيها أصلاً. ذلك أن سؤالاً كهذا أطرحه على آنسةٍ لا تُشاهد لقطةً واحدة من فيلم "وقائع قريتي" للجزائري الهولندي كريم طريدية، مثلاً، لن يحصل على إجابةٍ شافية، ربما لأنها هي نفسها لا تُدرِك إجابة كتلك، أو لأنها لا ترى في الإجابة أي معنى يُذكر، فتدافع عن نفسها بالقول: "وِانْتَ مالَكْ".

والمفارقة، هنا، تكمن في أن مسؤولي تنظيم الدخول إلى القاعات، ومراقبة الداخلين وتفتيش أغراضهم، لن يُقْدِموا على أي خطوة تحمي المُشاهدين من كلّ ازعاجٍ، يُمكن أن يحدث في كلّ لحظة، كأن يُفتح باب القاعة، فتشعّ الإضاءة في الداخل، وتحدث الجلبة، وتتوتر المُشاهدة.

والداخلون منصرفون إلى شؤونهم الخاصّة، فإذا بهواتفهم الخلوية تلك تأخذهم إلى أمكنة يريدونها، بعيداً عن وقائع سينمائية لن يعرف أحدٌ، أبداً، سبب نفورهم منها.

أما مسؤولو التنظيم والمراقبة والتفتيش ـ الذين يُشبهون رجال الأمن أو الاستخبارات (إنْ لم يكونوا، فعلاً، رجال أمن واستخبارات)، بملابسهم القاتمة، ووجوههم الصارمة، وسلوكهم الجامد ـ فيبدون أكثر اهتماماً بمحافظة ملتبسة على أمنٍ مرتبك، في بلدٍ يعاني الأمرّين.

أمام أبواب القاعات، أو في الفواصل القائمة بين "الهناجر" والمسرحين الكبير والصغير مثلاً، داخل جغرافية "دار الأوبرا المصرية"، تنتشر أجهزة كشف المعادن، التي لن تتردّد عن "إعلان" أدواتٍ ربما تكون مشبوهة، من دون أن يُحرِّك أحدٌ من الأمنيين ساكناً، إلاّ فيما ندر.

بينما التشديد صارمٌ على "بطاقات الدخول"، إذْ "يستحيل" على أي مُشاهد الوصول إلى مقعده في "المسرح الكبير" مثلاً، قبل أن يمرّ على 4 أو 5 "مفتّشين" و"مراقبين" لصلاحية البطاقة.

أمورٌ كهذه لا تحدث إلاّ في القاهرة، أو ربما تحدث في القاهرة، وفي بعض المدن العربية القليلة الأخرى، التي تشهد ارتباكات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، والتي تسعى إلى السينما إما للمحافظة على تقليد تاريخي متَّبع، وإما لتقديم "وجهٍ ناصعٍ" للبلد أمام الأجانب. 


لكن، بعيداً عن صرامة الملامح الخاصّة بمسؤولي الأمن ـ وبعضهم منتمٍ إلى فرقة مكافحة الإرهاب، بزيّه الذي يُخفي وجهه خلف قناع، وجسده في ثياب عسكرية سوداء وقاسية ـ فإن الدخول إلى أية قاعة من القاعات الخمس في "دار الأوبرا المصرية" (المسرح الكبير، المسرح الصغير، المسرح المكشوف، مركز الإبداع، مسرح الهناجر) أشبه باختراقٍ يحقِّقه المُشاهد المفترض، قبل أن يصل إلى مقعده، مستعدّاً لمواجهة "غزوات" القادمين للتسلية والثرثرة والبلبلة، علماً أن "ضجيج" الدورة الأخيرة تلك أكثر خفوتاً من قبل، وأن الحجز المسبق للبطاقات حلٌّ مطلوب، لإلغائه "الزحمة" الكثيفة أمام القاعات. فسلاسة الحصول على بطاقة مسبقة تصطدم بالتشديد "الأمني"، من دون الوقوع في فخّ الارتباك والصراخ و"التدفيش"، كما هو حاصلٌ سابقاً.

ليس قرار منع الـ "شبشب" والـ "صندل" وحيداً، في اليومين الأخيرين، إذْ يُرافقه قرارٌ آخر غير مفهوم، يقضي بمنع من هم دون السابعة من العمر من الدخول إلى أيّ قاعة. صحيحٌ أن القرار مثيرٌ للضحك والسخرية، إذْ يُفترض بالمسؤولين "منع" البعض من مشاهدة هذا الفيلم أو ذاك وفقاً لمضمونه، وهذا لا يتلاءم أصلاً مع مفهوم المهرجان، الذي يختار أفلاماً يمكن عرضها لمن هم فوق الـ 17 عاماً. 


لكن القرار يعكس جانباً من سلوك بيئة واجتماع، إذ تشهد الغالبية الساحقة من الصالات السينمائية التجارية، في القاهرة، دخول عائلات بكاملها، محمّلةً بمآكل ومشارب، وبأطفالٍ وصغارٍ. وهذا غير حاصلٍ في أروقة المهرجان، أقلّه في عروضٍ أشاركُ فيها.

أما المتطوّعون، فشبابٌ صغارٌ يتحمّسون لعملٍ مؤقّت يجنون منه لقاءات مع ضيوفٍ، ويلتقون بفضله بأجانب وعرب ومصريين، قد يكون بعضهم "نجماً" معروفاً. لكن المأزق أن هؤلاء غير مُدرَّبين كما يجب على ما يُفترض بهم أن يفعلوه، ولا يملكون "سرعة بديهة" تساعدهم على تجاوز بعض القواعد، في بعض الأوقات. يضيعون، أحياناً، بين ضرورة التقيّد بقواعد مفروضة عليهم، بخصوص تنظيم دخول المشاهدين وأمكنة جلوسهم مثلاً، وحيوية اللحظة ومتغيراتها؛ ولا يعرفون إجابات عن أسئلة يُفترض بمسؤولي المهرجان تقديم أجوبتها لهم، لتسهيل مهمّاتهم.

مع هذا، فهم يضحكون وإنْ في لحظات توتر، ويبتسمون أمام غضب متفرّج أو نزقه، ويُكملون ما يتوجّب عليهم عمله، بهدوءٍ وبساطة وتواضع. وهؤلاء يبقون أحد الوجوه الجميلة لمهرجانٍ سينمائيّ، يُقام سنوياً في القاهرة. وجوهٌ أجملُ من عرضٍ لأزياء متنوّعة الألوان والتصاميم، تستعرضها ممثلات على السجادة الحمراء، ليلة الافتتاح، إلى درجة أن تعليقات عديدة تلتقي عند الاستضافة الكبيرة في الحديث عليها، صباح اليوم التالي، في صحفٍ وبرامج تلفزيونية وإذاعية، وفي مواقع إلكترونية، وفي جلسات لن تخلو من نمائم تُساق حول ظواهر، ليست الأزياء وصراعاتها الاستعراضية محورها الوحيد.

 

 

 

 

المساهمون