لم تكن موافقة مجلس النواب المصري على تعديل قانون المحكمة الدستورية، بغرض منحها حق الرقابة القضائية على قرارات المنظمات والهيئات الدولية وهيئات التحكيم الأجنبية المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة المصرية، بعيدة عن حالة التخبّط التي تعيشها سلطة الانقلاب في مصر على مدار ثماني سنوات، خصوصاً في مجال التشريعات المالية والاقتصادية.
ومع عودة البرلمان المصري للانعقاد في مطلع عام 2016، أُصدر قانون تلو الآخر بحجة دعم الاستثمار في البلاد، غير أنه تبعتها تعديلات تشريعية من شأنها تخويف المستثمرين بدلاً من تشجيعهم، ولعل آخرها تعديل قانون المحكمة الدستورية الذي يقضي بعدم الاعتداد بقرارات التحكيم الدولي أو بالالتزامات المترتبة على تنفيذها.
وطرحت الحكومة المصرية التعديل لتمكينها من وقف تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة عن محاكم ومنظمات وهيئات دولية ذات طبيعة سياسية أو قضائية في مواجهتها. وكذلك قطع الطريق على قرارات ملزمة بأداء مستحقات أو تعويضات مالية، أو الالتزام بنصوص معينة في معاهدات دولية، أو توقيع عقوبات تتطلب رفع الضرر الواقع على أشخاص أو أطراف أو جهات بعينها.
بداية التخبط كانت مع قانون الاستثمار الجديد الذي أقره مجلس النواب في مايو/ أيار 2017، وسمح بتملك الأجانب للأراضي المصرية في المناطق الاقتصادية الجديدة بمدن القناة وسيناء، من دون الأخذ بالاعتبار خطورة ذلك على الأمن القومي للبلاد، فضلاً عن منحه رئيس الوزراء صلاحيات واسعة حيال المزايا الاقتصادية للمستثمرين، ومنها تخصيص أراضٍ بالمجان للصناعات الاستراتيجية، بلا تحديد لماهية تلك الصناعات، وتحمل الحكومة كلفة توصيل المرافق إلى المشروعات الجديدة، بما يثقل موازنة الدولة بأعباء مالية ضخمة.
ومنح القانون المستثمر الحق في الحصول إلى العقارات اللازمة لمباشرة نشاطه، أو التوسع فيه، أياً كانت جنسية الشركاء أو المساهمين أو نسبة مشاركتهم في رأس المال، واستقدام عاملين أجانب بنسبة 20 في المائة من إجمالي عدد العاملين في المشروع، مع النص على إلغاء المناطق الحرة الخاصة، والتي يعمل بها نحو 73 ألف عامل مصري.
ومع تزايد حدة الانتقادات إزاء مواد القانون، وفشله في جذب الاستثمارات الخارجية، اضطرت الحكومة إلى إدخال تعديلات موسعة على التشريع بعد عامين من تطبيقه، وهي التعديلات التي وافق عليها البرلمان في عام 2019، ومنحت المستثمرين الأجانب حوافز إضافية تشمل إعادة استثمار فوائض أرباحهم في مصر، من خلال مواد محددة تقلل التكاليف عليهم.
ومنحت التعديلات المشروعات الاستثمارية القائمة فرصة التمتع بالحوافز الخاصة بالاستثمارات الجديدة، من إعفاءات ضريبية وما شابهها، إلى جانب وضع حد أقصى لرسوم التصديق على توقيعات الشركاء على العقود عند كل تعديل في نظام الشركة، بغض النظر عن نظام الاستثمار الذي تخضع له.
إلا أن تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى مصر بقيت عند مستوياتها المنخفضة، رغم قرار الحكومة تحرير صرف الجنيه أمام الدولار، ما دفع الأخيرة إلى التقدم للبرلمان بتعديل جديد على القانون في العام التالي، للسماح بالترخيص لمشروعات الصناعات القائمة على الغاز الطبيعي كأحد مدخلات الإنتاج، وعلى رأسها الأسمدة والبتروكيماويات، للعمل بنظام المناطق الحرة.
الجنسية والصندوق السيادي
ومع فشل سلطة الانقلاب في جذب الاستثمارات من الخارج نتيجة التضارب في القرارات الاقتصادية، وافق مجلس النواب على تعديل حكومي على أحكام قانون دخول وإقامة الأجانب، يقضي ببيع الجنسية المصرية للأجانب مقابل وديعة مصرفية مدتها خمس سنوات بقيمة 7 ملايين جنيه، أو ما يعادلها من العملة الأجنبية، مع إجازة منح الجنسية بقرار من وزير الداخلية لكل أجنبي أقام في البلاد، متى كان بالغاً سن الرشد، وتوافرت فيه الشروط اللازمة لقبول طلب التجنس.
مع فشل سلطة الانقلاب في جذب الاستثمارات من الخارج نتيجة التضارب في القرارات الاقتصادية، وافق مجلس النواب على تعديل حكومي على أحكام قانون دخول وإقامة الأجانب، يقضي ببيع الجنسية المصرية للأجانب
كذلك وافق البرلمان على تشريع بإنشاء "صندوق مصر السيادي" تحت إدارة رئيس الجمهورية، برأس مال مرخص 200 مليار جنيه مصري، ورأس مال مصدر 5 مليارات جنيه، والهادف إلى منح الصندوق أحقية نقل ملكية أصول الدولة للجهات التي يحددها، وبيع وشراء وتأجير واستئجار الأصول الثابتة والمنقولة للدولة، إيذاناً بطرحها للبيع أمام القطاع الخاص، على غرار مجمع التحرير ومقر الحزب الوطني السابق ومبنى وزارة الداخلية في وسط القاهرة.
وفي 20 يوليو/ تموز 2020، أدخل البرلمان تعديلاً على قانون إنشاء الصندوق لتحصين قرارات رئيس الجمهورية بنقل ملكية الأصول إلى الصندوق من الطعن القضائي، بحيث يقتصر على الجهة المالكة أو الصندوق نفسه، ولا ترفع الدعاوى ببطلان العقود التي يبرمها الصندوق، أو التصرفات التي يتخذها لتحقيق أهدافه، أو الإجراءات التي اتخذت استناداً لتلك العقود، أو التصرفات، إلا من أطراف التعاقد من دون غيرهم.
تحيا مصر
في موازاة ذلك، صدق السيسي على تعديل قانون إنشاء "صندوق تحيا مصر" في 15 يونيو/ حزيران الماضي، بعد موافقة مجلس النواب، لإعفاء جميع عوائد الصندوق ومداخيله والتسهيلات الائتمانية الممنوحة له، من جميع الضرائب والرسوم أياً كان نوعها، ورسوم الشهر العقاري والتوثيق، والرسوم الجمركية، وكذلك عدم سريان أحكام قوانين ضرائب الدخل والدمغة، ورسم تنمية موارد الدولة، والضرائب والرسوم الجمركية، والضريبة على القيمة المضافة، وأي نوع آخر من الضرائب والرسوم المفروضة حالياً أو مستقبلاً.
ومثل التعديل استمراراً لتوسيع سلطات الصندوق التابع للرئاسة والجيش، وغير الخاضع نهائياً للرقابة، لتكريس وضعه الاستثنائي كصندوق "شبه سيادي"، يزاحم به النظام الشركات الحكومية والقطاع الخاص في بعض الأنشطة، لا سيما أن قانون الصندوق يسمح له بإنشاء شركات جديدة مملوكة ملكية تامة للصندوق، أو يساهم في رأس مالها.
غلاء غير مسبوق
وكشف الواقع زيف وعود قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي المتكررة حول تحسن الأوضاع الاقتصادية، إذ شهد المواطن المصري موجة غير مسبوقة من الغلاء في تاريخ البلاد، إثر رفع أسعار الكهرباء لمرات ثمانٍ متتالية منذ وقوع الانقلاب، بزيادة مجموعها وصل إلى 860 في المائة، وست زيادات في أسعار المواد البترولية، حيث قفز سعر السولار من 1.1 جنيه لليتر إلى 6.75 جنيهات، والبنزين (92 أوكتان) من 1.85 جنيه إلى 7.75 جنيهات، بخلاف تضاعف أسعار استهلاك الغاز الطبيعي ومياه الشرب للمنازل أكثر من مرة.
رفع أسعار الكهرباء لمرات ثمانٍ متتالية منذ وقوع الانقلاب، بزيادة مجموعها وصل إلى 860 في المائة، وست زيادات في أسعار المواد البترولية
فيما يعاني المصريون من ارتفاع كبير في كلفة التنقل مع تلاحق القرارات الرسمية، إذ ارتفع منذ انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 سعر التذكرة الموحدة لمترو أنفاق القاهرة من جنيه واحد إلى خمسة جنيهات كحد أدنى، وصولاً إلى عشرة جنيهات في الخط الثالث للمترو.
وزادت كلفة وسائل النقل العام من جنيه إلى خمسة جنيهات للباصات العادية، وخمسة عشر جنيهاً لخطوط السير المدعومة بباصات مطورة للمدن الجديدة، وزاد سعر تذاكر القطارات بأكثر من 300 في المائة.
خصخصة المرافق
وفي هذا السياق، وافق مجلس النواب على تعديل بعض أحكام قانون إنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر، والذي قضى بإشراك القطاع الخاص في إدارة وتشغيل وصيانة مشروعات البنية الأساسية، وشبكات هيئة السكك الحديدية على مستوى الجمهورية، تمهيداً لطرح أصول المرفق العام للبيع أمام شركات القطاع الخاص، وتحرير أسعار بيع تذاكر القطارات.
كما أقرّ قانوناً مقدماً من الحكومة لإدخال اختصاصات نوعية جديدة للهيئة القومية للأنفاق، تشمل إشراك المستثمرين المحليين والأجانب في إدارة المرفق، وتأسيس الهيئة شركات مساهمة بمفردها، أو بالاشتراك مع شركاء آخرين لإدارة وتشغيل وصيانة المشروعات، ما يعد الخطوة الأولى نحو خصخصة القطاع بالكامل، وزيادة أسعار الخدمات الحالية المقدمة للمواطنين.
ووافق البرلمان أيضاً على تعديل بعض أحكام قانون الطيران المدني، والذي يستهدف تنظيم إجراءات طرح أراضي ومباني المطارات المصرية للبيع أمام المستثمرين، وهو التشريع الذي أعدّ خصيصاً من الحكومة لبيع مطار النزهة في محافظة الإسكندرية، بعد تصريح السيسي في إبريل/ نيسان 2017 بأن "هناك استحالة في تشغيله مرة أخرى، بعد صرف أكثر من 360 مليون جنيه على تطويره".