مع تصاعد وتيرة الخلافات بين عملاق الغاز الروسي "غازبروم" وشركة "نفطوغاز" الأوكرانية، يتخوف المستهلكون في بلدان الاتحاد الأوروبي من أن تلقي الأزمة بين الشركتين بظلالها على إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، وتكرار أزمة انقطاع الوقود الأزرق على غرار تلك التي حدثت عام 2009.
وأعلنت غازبروم في وقت سابق من مارس/ آذار الجاري، عن بدء إجراءات فسخ عقود توريد وترانزيت الغاز مع أوكرانيا، بعد قرار محكمة التحكيم في استوكهولم في فبراير/شباط الماضي، إلزام غازبروم بدفع نحو 2.56 مليار دولار إلى نفطوغاز على سبيل التعويض عن عدم توريد الكميات المتفق عليها لغاز الترانزيت، معتبراً أن المحكمة تكيل بمكيالين وأخلت بتوازن مصالح الطرفين.
وفي الوقت الذي وجهت فيه غازبروم إخطاراً إلى نفطوغاز ببدء إجراءات فسخ العقود، بدأت الجهات الأوكرانية بجرد أصول عملاق الغاز الروسي في أوكرانيا لوضع حجز عليها تنفيذا لقرار المحكمة.
وفي هذا الإطار، يحذر أليكسي غريفاتش، نائب مدير صندوق أمن الطاقة الوطني بموسكو، من أنه لن يكون هناك رابح من تفاقم الأزمة، بل ستلحق أضرارا جسمية بكل من روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي.
ويقول غريفاتش لـ"العربي الجديد": "الاتحاد الأوروبي وغازبروم مهتمان بمواصلة التعاون. يندر في أوروبا من هو مستعد لشراء الغاز المسال أو الغاز الأميركي بأسعار تزيد بنسبة تتراوح بين 30% و40%، مقارنة بغاز الأنابيب لمجرد عدم شراء الغاز الروسي، مثل هذه الأزمات كانت تحدث وستظل، ولم تمنعها حتى العقود المبرمة بين روسيا وأوكرانيا عام 2009 لمدة 11 عاما".
ويأسف الخبير الروسي لـ"سقوط محكمة استوكهولم ضحية" للتجاذبات السياسية، قائلا: "أصدرت محكمة التحكيم قرارا متناقضا يلزم غازبروم ويعفي نفطوغاز من التزاماتها، بينما لا ينبغي أن يأخذ التحكيم الظروف الاقتصادية لكل بلد بعين الاعتبار".
ومع ذلك، يشير إلى أن اتخاذ التحكيم قرارا آخر لم يكن سيمنع اندلاع الأزمة، بل كانت ستحدث من طرف أوكرانيا، معتبرا أنه لا يزال هناك وقت للتوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف قبل انتهاء عقود الترانزيت في نهاية عام 2019.
وعلى الرغم من الخلافات السياسية وحرب العقوبات الاقتصادية بسبب الوضع في أوكرانيا منذ عام 2014، ظل قطاع الطاقة من نقاط التلاقي بين روسيا والاتحاد الأوروبي، بل ارتفعت حصة روسيا في سوق الغاز الأوروبية من 33% في عام 2016 إلى نحو 35% في العام الماضي 2017، وسط توقعات بتجاوزها الـ 40% بحلول 2035.
ويعلق غريفاتش على هذه الزيادة، قائلا: "لم تؤثر المشكلات السياسية على التعاون في قطاع الغاز، بل هناك تبعية متبادلة تساعد في تجنب خلافات جسيمة لمنع تكرار وقائع قطع الغاز عن أوروبا على غرار عام 2009".
على الرغم من شدة لهجة غازبروم تجاه نفطوغاز الأوكرانية، يستبعد الخبير بشركة وود ماكنزي للاستشارات في مجال الطاقة، غيرغي مولنار، أن تتمكن روسيا من الحد من اعتمادها على أوكرانيا في نقل الغاز إلى أوروبا قبل عام 2020.
ويقول مولنار لـ"العربي الجديد": "لا يترتب على إعلان غازبروم إنهاء عقد ترانزيت الغاز، الوقف الفوري لعبوره عبر أوكرانيا، فلا يزال غازبروم يعتمد على أوكرانيا في الوفاء بالتزاماته أمام المستهلكين الأوروبيين، إذ مر 93.5 مليار متر مكعب أي أكثر من 45% من الغاز الروسي المورد إلى أوروبا وتركيا، عبر الأراضي الأوكرانية في العام الماضي، وفي جميع الأحوال لن تكون خطوط الغاز البديلة متاحة قبل عام 2020".
ويشير إلى أنه في حال فسخ العقد طويل الأجل لترانزيت الغاز، سيضطر غازبروم إلى دفع الرسوم المرتفعة التي تطبقها أوكرانيا منذ عام 2015، وذلك بواقع 1.16 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية بدلاً من 0.82 دولار حاليا.
ومع ذلك، يعتبر مولنار أن إنهاء عقد الترانزيت سيعفي غازبروم على المدى البعيد من تنفيذ قرارات التحكيم، مرجحا أن يدفع التصعيد مع نفطوغاز بغازبروم نحو الوفاء بخططه للالتفاف على أوكرانيا في نقل الغاز إلى أوروبا.
وفي ظل إدراكها أن الأزمة في علاقاتها مع كييف ستدوم لسنوات أو ربما عقود، تبحث موسكو عن مد خطوط أنابيب بديلة لعدم مرور الغاز بالأراضي الأوكرانية، وفي مقدمتها "السيل التركي" و"السيل الشمالي-2".
ومن المقرر أن يضم مشروع "السيل الشمالي-2" الموازي لـ"السيل الشمالي"، أنبوبين بطول 1200 كيلومتر وطاقة تمريرية 55 مليار متر مكعب سنوياً عبر قاع بحر البلطيق حتى مدينة غرايفسفالت الألمانية، على أن يتم تشغيل الخط قبل نهاية عام 2019.
أما مشروع السيل التركي، فيضم أنبوبين بطاقة تمريرية تصل إلى 15.75 مليار متر مكعب لكل واحد منهما، وأحدهما لتوريد الغاز الروسي إلى تركيا والثاني لعبوره إلى بلدان جنوب أوروبا.
وفي الوقت الذي انتهى فيه غازبروم من مد 50% من القسم البحري من "السيل التركي"، لا يزال "السيل الشمالي-2" يواجه عقبات بسبب اعتراض دول بعينها داخل الاتحاد الأوروبي مثل بولندا أو الدنمارك، وقانون العقوبات الأميركي الجديد الذي يطاول الشركات المستثمرة في الخطوط الروسية لتصدير الغاز، مما يزيد من مخاوف موسكو من استمرار اعتمادها على أوكرانيا.
وكانت محكمة التحكيم في استوكهولم قد بررت حكمها بإلزام غازبروم بدفع 2.56 مليار دولار إلى نفطوغاز بأن أوكرانيا تكبدت خسائر اقتصادية نتيجة نقص كميات الترانزيت.
إلا أن وزير الطاقة الروسي، ألكسندر نوفاك، رأى أن قرار التحكيم استند إلى شروط لم يكن منصوصا عليها في العقد، وأنه "قرر دعم الاقتصاد الأوكراني على حساب غازبروم"، لتصبح العقود غير مجدية للجانب الروسي، وفق تقديره.
منذ توجّه أوكرانيا نحو التكامل مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وابتعادها عن روسيا، خاضت موسكو وكييف مجموعة من حروب الغاز، بلغت ذروتها مطلع عام 2009، حين أوقفت غازبروم إمداداتها إلى أوكرانيا التي ردت على ذلك بقطع خطوط الترانزيت.
وأثناء تلك الأحداث، تجاوزت حرب الغاز نطاق الخلاف الثنائي بين البلدين، بل واجه المستهلكون في عدد من الدول الأوروبية نقصا في إمدادات الغاز.
وبعد أن ألحقت هذه الأزمة أضرارا وخسائر بجميع أطرافها، أبرمت موسكو وكييف في يناير/كانون الثاني 2009، عقود توريد وترانزيت الغاز عبر أوكرانيا حتى نهاية عام 2019، إلا أن تفاقم الأزمة الأوكرانية على إثر إقدام روسيا على ضم شبه جزيرة القرم ودعم المناطق الموالية لها شرق أوكرانيا عام 2014، دفع كييف نحو التوقف عن شراء الغاز القادم من روسيا في العام التالي، واستبداله بالغاز العائد من أوروبا، إلى أن باتت تداعيات الأزمة تهدد المستهلكين الأوروبيين من جديد.