ربما تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق دورة انتعاش حقيقية قوية خلال السنوات الأربع المقبلة من ولاية الرئيس جوزيف بايدن، في حال تمكّنها من تطعيم كامل السكان فوق سن البلوغ وحصار جائحة كورونا.
وكانت دورة الانتعاش التي شهدها الاقتصاد الأميركي، خلال السنوات الماضية، قائمة على ضخ مصرف الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" والحكومة للدولارات في السوق، وهو ما يعني انتعاشاً وهمياً أو ورقياً في سوق المال، لا تدعمه بيانات النمو الاقتصاد الحقيقي، وفق مراقبين.
لكن في حال نجاح محاصرة جائحة كورونا، يتوقع اقتصاديون أن تعتمد دورة الانتعاش المقبلة على القوة الشرائية للمواطن في أميركا. إذ أن الانتعاش المبني على القوة الشرائية يعني أن ارتفاع مؤشرات سوق المال يعكس النمو الاقتصادي وزيادة التوظيف والربحية.
في هذا الشأن، يتوقع الاقتصادي في مصرف "مورغان ستانلي" الاستثماري، شيتان أهيا، أن يتمكن الاقتصاد الأميركي من استعادة قوة النمو التي خسرها أثناء ضربات جائحة كورونا، وأن يتوسع بمعدل أكبر من المعدل الذي كان عليه قبل الجائحة.
ولكن الاقتصادي أهيا يقول، في مقال بصحيفة "فاينانشيال تايمز" اللندنية، أمس الأربعاء، إن معدل التضخم ربما سيرتفع بمعدل أسرع من التوقعات ويجبر مصرف الاحتياط الأميركي على تشديد السياسة النقدية، أي رفع نسبة الفائدة.
ومن بين الأدلة القوية على أن سوق المال الأميركية مقبلة على دورة انتعاش حقيقية يدعمها النمو الاقتصادي وليس التريليونات المطبوعة، عزوف المستثمرين عن شراء السندات الحكومية وبيع جزء من حيازاتهم منها خلال الأسابيع الماضية.
ويتخوف كبار المستثمرين، في الوقت الراهن، من أن تقود دورة الانتعاش الاقتصادية القوية إلى ارتفاع معدل التضخم فوق نسبة 2% التي حددها مصرف الاحتياط الفدرالي "البنك المركزي الأميركي" كهدف، قبل رفع معدل الفائدة الأميركية التي تتراوح حالياً بين صفر و0.25%.
وعادة ما يضرب ارتفاع معدل التضخم ربحية أدوات المال ذات العائد الثابت، وعلى رأسها سندات الخزانة الأميركية. وفي المقابل، فإن الاستثمار في الأسهم يحافظ على الربحية، وذلك ببساطة لأن القيمة السوقية للأصول في البورصة تتحرك في موازاة التضخم وليست ثابتة مثل السندات. وبالتالي، يلاحظ أن المستثمرين يبيعون الأدوات المالية الثابتة لتجهيز أنفسهم لدورة الانتعاش المقبلة في سوق "وول ستريت".
في هذا الشأن، يرى خبير الاستثمار في مصرف "أتش أس بي سي" البريطاني، وليام سيلس، أن مصرف الاحتياط الفيدرالي سينتظر حتى يتجاوز التضخم معدل 2% قبل رفع سعر الفائدة. وينذر الارتفاع السريع في العائد على السندات الحكومية بحدوث ارتفاع سريع في التضخم، خاصة إذ تحققت النبوءات الخاصة بارتفاع معدل النمو الاقتصادي فوق 8%.
ويلاحظ أن العائد على السندات الحكومية شبه تضاعف خلال شهرين فقط، إذ ارتفع من معدل 0.915% في بداية العام إلى 1.545% يوم الثلاثاء وبلغ 1.6% في بداية الأسبوع.
وتتجه الحكومة الأميركية، حسب توقعات مصرف "بانك أوف أميركا" التي نشرتها صحيفة "وول ستريت" جورنال أمس الأربعاء، لإصدار سندات جديدة خلال العام الجاري بقيمة 2.8 تريليون دولار، مقارنة بالسندات المصدرة في العام الماضي البالغة 1.7 تريليون دولار. وهذه القيمة لإجمالي السندات الحكومية التي تتراوح آجالها بين عامين و30 عاماً. ويعني هذا المبلغ الضخم أن إدارة جوزيف بايدن ستنفق بقوة على الانتعاش الاقتصادي خلال العام الجاري لرفع معدل التوظيف والنمو الاقتصادي، وبالتالي زيادة القوة الشرائية الأميركية.
وخلال دورات الانتعاش الحقيقية التي عاشها الاقتصاد الأميركي في العقود التي سبقت أزمة المال في عام 2008، كانت القوة الشرائية الماكينة التي تقود التوسع الاقتصادي وتحقق الربحية للشركات المسجلة للتداول في سوق المال، وترفع من معدل التوظيف، وتبعاً لذلك تخفض نسبة البطالة. ومن بين الأدلة على أن أميركا مقبلة على دورة اقتصادية حقيقية جديدة، أن المصارف الاستثمارية بدأت تسحب استثماراتها من أسواق آسيا وتعيدها للسوق الأميركي، كما أن سعر صرف الدولار عاد للارتفاع مقابل العملات الرئيسية.
في هذا الشأن، رفع مصرف "مورغان ستانلي"، في تقرير قبل أسبوعين، توقعاته لنمو الاقتصادي الأميركي من 7.3% إلى 8.1% خلال العام الجاري 2021.
ونما الاقتصاد الأميركي، البالغ حجمه 21.48 تريليون دولار قبل جائحة كورونا، بنحو 4.1% في الربع الأخير من العام الماضي، وهو معدل أكبر بكثير من معدلات النمو التي نشرتها منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، يوم الثلاثاء.
وتتوقع بيانات نشرتها جامعة جورجيا الأميركية، أن يرتفع إجمالي القوة الشرائية في أميركا من مستوياتها البالغة 14.8 تريليون دولار إلى 16.6 تريليون دولار. ويلاحظ أن القوة الشرائية الأميركية كسبت أكثر من تريليون دولار في الربع الأخير من العام الماضي، كما ارتفعت بنحو 2.5% في يناير/كانون الثاني الماضي.
ويرصد خبراء المال والاقتصاد، ثلاثة عوامل رئيسية ستدفع دورة الانتعاش الكبير المتوقع في الاقتصاد الأميركي، وهي أولا محاصرة جائحة كورونا ونهاية إغلاق النشاط الاقتصادي في معظم الولايات الأميركية. وثانياً توفر سيولة ضخمة لدى المصارف الأميركية تمكنها من الاستثمار في الاقتصاد وزيادة حجم القروض الشخصية وقروض الشركات. وثالثاً: انحسار البطالة وعودة الوظائف بقوة مع عودة الأعمال التجارية للتشغيل الطبيعي.
على صعيد محاصرة جائحة كورونا، تشير بيانات نشرتها أمس نشرة "ماركت ووتش" الأميركية، إلى أن 18% من الأميركيين فوق سن البلوغ تم تطعيمهم حتى الآن ضد فيروس كوفيد 19، وأن عمليات التطعيم تتسارع بنحو 2.2 مليون عملية تطعيم يومياً.
وتتوقع النشرة في تقريرها أن السلطات الصحية ربما تتمكن من تطعيم كامل السكان بنهاية شهر مايو/أيار المقبل. وفي حال نجاح عمليات التطعيم وفعاليته في محاصرة الجائحة، فإن الدورة الاقتصادية وعمليات التشغيل الكامل للأعمال التجارية ربما تعود في نهاية الصيف المقبل.
أما على صعيد سيولة المصارف الأميركية، يرى مصرف "جي بي مورغان"، أن البنوك التجارية الأميركية غارقة في السيولة، ولديها احتياطات نقدية تقدر بنحو 3.2 تريليونات دولار. كما يشير إلى أن الإيداعات في الحسابات المصرفية ارتفعت بنسبة 35% خلال الربع الأخير من العام الماضي، مقارنة بمستوياتها في الربع الأخير من عام 2019.
ومن المقدر أن ترتفع الإيداعات الجديدة مع صرف الإعانات للعائلات الأميركية، بعد أن باتت حزمة التحفيز الأميركي البالغة 1.9 تريليون دولار على أعتاب التصديق عليها من قبل الرئيس جوزيف بايدن. وبالتالي، فإن البنوك الأميركية في وضع جيد لتمويل دورة الانتعاش الاقتصادي الجديدة.
أما بالنسبة لخفض معدل البطالة والعودة للتوظيف الذي يعد من العوامل المهمة لخفض الدين الحكومي ورفع القوة الشرائية، فإن الاقتصاد الأميركي لا يزال يعاني من ارتفاع نسبة البطالة ونفقات الإعانات للعاطلين عن العمل.
وحسب بيانات مصلحة العمل الأميركية الأخيرة، فإن هناك نحو 10 ملايين عاطل عن العمل في أميركا. ولكن البيانات تشير إلى ارتفاع ملموس في الوظائف الجديدة، إذ أن أميركا أضافت نحو 182 ألف وظيفة في فبراير/شباط الماضي، مقارنة بـ49 ألف وظيفة في يناير/كانون الثاني.
وترى الباحثة الاقتصادية في مؤسسة "أوكسفورد إيكونومكس"، لايديا بوسور، أن سوق العمل الأميركي سيواصل التحسن خلال الشهور المقبلة. وتشير مؤشرات سوق "وول ستريت" إلى أن دورة التصحيح المؤلمة التي شهدتها أسهم التقنية بلغت نهايتها، وهناك توقعات بأن تعود هذه الأسهم إلى الارتفاع التدريجي في سوق ناسداك.