فماذا بعد بدء تطبيق قانون "قيصر" وزيادة التوقعات بانهيار حتمي لعملة ترمى بالأسواق بكميات هائلة "تمويل بالعجز" من دون أي معادل، عملات أو معادن ثمينة أو تغطية إنتاجية وخدمية.
ولأنه، على الأرجح، ليس ثمة قرار دولي بانهيار سورية كدولة الآن، وليس العملة فحسب، يؤثر المخططون على إبقاء الليرة كعملة قابلة للتداول داخل سورية، أو بمناطق سيطرة الأسد على الأقل، بعد تفشي استخدام الليرة التركية شمال غرب سورية وغلبة استخدام الدولار بمناطق سيطرة الإدارة الذاتية "شمال شرق" وهروب المكتنزين إلى الذهب، بعد مراسيم تجريم التعامل بالعملات الأجنبية، فنرى بسعر غرام الذهب الذي اقترب من 85 ألف ليرة، بعض المؤشرات الحقيقية لسعر هذه العملة المتهالكة.
قبل أن نأتي على ما يمكن أن تفعله العملة، إن بانهيار أو تسريع انهيار النظام الأسدي الحاكم، قد يسأل "الغرباء عن سورية" عن ماضي هذه الليرة، وهل تاريخياً النقد السوري بالحضيض، أم ثمة ماضٍ عريق لليرة، شوهه نظام الأسد، الأب والابن، كما ضيعوا هيبة السوريين وأماتوا زراعة وصناعة بلد، كانت على مدى عقود، قبلة وبوصلة للمنطقة.
مرت الليرة السورية بأسعار صرف مختلفة، نظراً للجهة التي تبعت لها أو للأحداث السياسية والاقتصادية التي مرت بها البلاد، منذ الدولة العثمانية.
إذ لم تكن العملة المتداولة زمن الحكم العثماني في سورية، مرتبطة بالدولة السورية، بل بالحكم العثماني. فقبل عام 1888 كانت الدولة العثمانية خاضعة لقاعدة المعدنين "الذهب والفضة"، وكانت العملة المتداولة في سورية هي الليرة العثمانية الذهبية والفضية، وصدرت خلال تلك الفترة أوراق نقدية عثمانية، مغطاة 200% بسندات خزينة نمساوية وألمانية، ولكن لم يجرِ تداولها في سورية.
وفي عام 1928 الذي يعتبر تأريخاً، نتيجة ما يسمى "الثورة العربية الكبرى"، حيث لم تعد العملة الورقية العثمانية ذات قيمة أو قابلة للتداول، ليحل الجنيه المصري المطبوع في بريطانيا محل العملة العثمانية في سورية، ومنه جاءت كلمة "مصاري" في سورية بدل كلمة نقود، ويستمر التعامل بالجنيه، حتى مطلع عشرينيات القرن الفائت، وقت الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان.
وقتذاك، وفي عام 1920، ولدت الليرة السورية - اللبنانية، من خلال المصرف السوري "المصرف الفرنسي بدمشق"، وكانت الليرة تساوي 20 فرنكاً فرنسياً. واستمرّ "المصرف الفرنسي بسورية" بإصدار النقد حتى عام 1924، وقت سمح "المصرف الفرنسي" للمصرف السوري، بعد اتفاقية نقدية بين فرنسا من جهة، وسورية ولبنان من جهة أخرى، بإصدار ليرة سورية لمدة 15 عاماً، وقبل تجديد الاتفاقية ومرور 15 عاماً، فُصلَت الليرتان، السورية واللبنانية، إحداهما عن الأخرى في عام 1939.
ومرت الليرة السورية بطور جديد، خلال الحرب العالمية الثانية، وقت تحالف الجنيه الإسترليني مع الفرنك الفرنسي، ليجري ربط الليرة السورية بالإسترليني، وكان سعر صرف الجنيه يساوي 883.125 قرشاً سورياً، وكان كل 22.65 ليرة تساوي فرنكاً فرنسياً واحداً.
ليدخل طور الربط بالدولار، بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً عام 1947، وقت تركت سورية منطقة الفرنك، وكان سعر الدولار مقابل الليرة "دولار يساوي 2.19 ليرة"، لكن الإصدار النقدي، السوري واللبناني، بقي إدارياً مرتبطاً بفرنسا، وكان الإصدار بإشراف فرنسي وبتوقيع الرئيس بوسون، وذلك حتى عام 1949.
ومرت الليرة بعمليات تأسيس، إذ أُصدِرَت أول ليرة مستقلة عام 1953، وأُدرِج اسم الجمهورية السورية، وتوقيع وزير المال بالبدايات، خلال إصداري 1953 و1957، ليُعتمَد بعد ذاك توقيع وزير الاقتصاد وإصدار الفئات النقدية السورية الصغيرة "فئات القروش المعدنية، إلى جانب عملات ورقية من فئات الليرة وحتى الخمسمئة".
وكانت السلطات النقدية في سورية قد اتبعت سياسة نظام الصرف الثابت، خلال انضمامها إلى اتفاقية "بريتون وودز" عام 1947، وكان سعر صرف الليرة وقتذاك (405.12) ملغ ذهب، وتساوي (45.6) سنتاً أميركياً، وهذا يعني أن كل دولار واحد كان يساوي (219.148) قرشاً سورياً.
وبعد انهيار اتفاقية "بريتون وودز" في أوائل السبعينيات وتعويم العملات مقابل الدولار، رُبطَت الليرة السورية بالدولار فقط، وتحدد سعر الصرف بـ(3.95) ليرات، وبقي كذلك حتى عام 1981، عندما اتبعت السلطات النقدية سياسة تعدد أسعار الصرف للحفاظ على استقرار الأسعار الداخلية، واعتُمد سعر خاص بصرف الدولار لأغراض التصدير، بغية تشجيعه وتمويل المستوردات للقطاع العام وتخفيض تكاليف الصناعة الوطنية.
وسنّ البنك المركزي السوري منذ عام 2001 عدة تشريعات وقوانين، كالقانون رقم (28) لعام 2001، الذي فتح المجال أمام تأسيس المصارف الخاصة، والقانون رقم (22) لعام 2005 الذي أسس هيئة الأوراق والأسواق المالية السورية، والقانون رقم (24) لعام 2006، الذي سمح بتأسيس مؤسسات الصيرفة، إضافة إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات، من بينها إعطاء حرية أكبر في تداول النقد الأجنبي وبيعه لمن يحتاجه.
وأصبح بإمكان المستورد شراء العملة الصعبة من جميع المصارف المرخص لها التعامل بالقطع الأجنبي، ليبلغ في أواخر عهد حافظ الأسد متوسط سعر صرف الليرة مقابل الدولار خلال الفترة بين 1995-2001 نحو (50.78) ليرة سورية، ليتذبذب سعر الصرف قليلاً، بين 50 و45 ليرة للدولار حتى عام 2011، أي بعهد الأسد الابن، بشار، وبداية ثورة السوريين.
ويعود حفاظ الليرة على ثباتها النسبي، بفترة ما قبل الثورة، إلى تطور الأداء الاقتصادي والاستقرار السياسي وسنّ قانون الاستثمار رقم (10) لعام 1991 الذي أسهم في زيادة عدد المشاريع الاستثمارية، وزيادة القطع الناجم عن زيادة الموارد السياحية وتحسن في وضع الحساب الجاري.
ولكن بدأ تراجع سعر الليرة بالتزامن مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وقت لم يزد سعر صرف الدولار على 50 ليرة، حيث أخذت العملة مع نهاية كل عام تستنزف من قيمتها، لتسجل نهاية عام 2012 نحو 97 ليرة للدولار.
وبدأت التراجعات الكبيرة منذ عام 2013 حيث وصل سعر صرف الدولار في مارس/ آذار إلى نحو 120 ليرة، وتجاوز سعر الدولار 300 ليرة بنهاية العام.
وتعافت الليرة قليلاً عام 2014، فراوح سعر الصرف بين 170 ليرة منتصف عام 2014 و220 ليرة نهايته، ليعاود تراجع سعر الليرة في عام 2015، ويصل إلى 380 ليرة للدولار الواحد، وتبلغ أسوأ سعر لها عام 2016 وقت هوت إلى ما دون 640 ليرة للدولار الواحد.
ليعاود سعر الليرة التحسن منذ عام 2017، بالقياس مع سعر عام 2016، ليتفاوت السعر على عتبة 500 ليرة، قبل أن يتحسن أيضاً مطلع عام 2018، ومن ثم يتراجع منذ مطلع عام 2019 الذي بدأته العملة السورية، بنحو 500 ليرة للدولار وأنهته بنحو 915 ليرة.
أما التهاوي الكبير الأقرب للانهيار، فكان منذ مطلع العام الجاري، حين أضيفت أسباب جديدة إلى العوامل الاقتصادية، كالأزمة في لبنان، وامتناع المصارف في بيروت عن منح الدولار لسوريين تقدَّر ايداعاتهم بنيف و30 مليار دولار، ليأتي الصراع على سرقات السوريين، بين رئيس النظام بشار الأسد وابن خاله رامي مخلوف، فيجهز على الليرة التي هوت إلى نحو 3000 مقابل الدولار، قبل أن يبدأ تطبيق "قانون قيصر" الذي أوصل الليرة قبل أيام إلى عتبة 3500 مقابل الدولار الواحد.
نهاية القول: الأرجح أن يستمر نظام الأسد بطرح كتل نقدية جديدة بالليرة، سواء لتنفيذ بعض بنود الشق الجاري من موازنة ممولة بالعجز أصلاً، أو لتقديم "رشى" للشارع عبر زيادة أجور لن تزيد السوريين إلا فقراً والعملة إلا تضخماً.
ما يعني، أو هكذا التصوّر، سيساهم التمويل بالعجز المترافق مع وقف أي استثمار وعدم تدفق كتل دولارية إلى سورية إثر "قانون قيصر" والتوقعات بتشميل الحزمة الثاني منه، عقوبات على مصرف سورية المركزي، سيساهم بانهيار الليرة وبلوغ سعر صرفها أمام الدولار، ربما لخمسة آلاف، هذا إن بقيت على قيد التداول، ولم تغدُ تجارة خاسرة لكل مقتنيها ومكتنزيها.
وقتذاك، ستكون صفعة نظام الأسد من العملة وغلاء الأسعار وانتفاضة الجوعى، وتخيب "المسلمات" بأن الأنظمة المستبدة لا تسقط من بوابة الاقتصاد.