وبحسب مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، ترجّح لورا داندريا تايسون، الأستاذة بكلية هاس للأعمال بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، أنّ "العديد من الوظائف المفقودة لن تعود بتاتاً"، مضيفة أنّ "التغييرات في الطلب، بسبب الاضطراب الاقتصادي الذي أحدثته الجائحة، ستبدّل التكوين المستقبلي للناتج المحلي الإجمالي. وسوف تستمر حصة الخدمات في الاقتصاد بالارتفاع. لكن حصة الخدمات الشخصية ستنخفض في تجارة التجزئة، والضيافة، والسفر، والتعليم، حيث ستؤدي الرقمنة إلى تغييرات في طريقة تنظيم هذه الخدمات وتقديمها".
وظائف مطلوبة وأخرى لن تعود
وتلفت الخبيرة تايسون إلى أنّ العديد من الوظائف ذات الأجور والمهارات المنخفضة لن تعود. في المقابل، ترى أنّ الطلب سيزداد على العمال الذين يقدّمون الخدمات الأساسية، مثل الشرطة، وأفراد الدفاع المدني، والعاملين في مراكز الرعاية الصحية، والخدمات اللوجستية، والنقل العام، والطعام، مما سيخلق فرص عمل جديدة، ويزيد الضغط لزيادة الأجور وتحسين الفوائد في هذه القطاعات ذات الأجور المنخفضة تقليديًاً.
أمّا كيشور محبوباني، الزميل في معهد آسيا للبحوث في جامعة سنغافورة الوطنية، فيقول لـ"فورين بوليسي" إنّ "جائحة كوفيد 19 ستسرّع من التغيير الذي بدأ بالفعل، وهو الانتقال من العولمة التي تركّز على الولايات المتحدة إلى عولمة أكثر تركيزاً على الصين".
الانتقال من العولمة وأهمية الحدود
من جانبه، يدعو جوزيف إي ستيغليتز، أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة كولومبيا الحائز على جائزة "نوبل" التذكارية في الاقتصاد لعام 2001، في حديثه لـ"فورين بوليسي"، إلى "إقامة توازن أفضل بين العولمة والاعتماد على الذات". ويقول إنّ "الاقتصاديين اعتادوا على الاستهزاء بدعوات البلدان لمتابعة سياسات الأمن الغذائي أو الطاقة. وكانت حجّتهم أنّ الحدود غير مهمّة في زمن العولمة، وأنّه يمكنهم دائماً اللجوء إلى بلدان أخرى في حال حدوث أي شيء داخل بلادهم. بيد أنّ هذه الجائحة أثبتت فجأة أهميّة الحدود، حيث نرى البلدان تتمسك
بشدة بمواردها من الأقنعة والمعدات الطبية، وتكافح من أجل الحصول على الإمدادات".
تغييرات كما في زمن الحرب
قد تكون نظرية روبرت جيه. شيللر، أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة ييل والحائز على جائزة "نوبل" التذكارية في الاقتصاد لعام 2013، الأقل تشاؤماً، حيث تؤمن النظرية بأنّ جوّ الحرب يفتح نافذة للتغيير، وتقول أنّه على الرغم من أنّ العدو، اليوم، هو فيروس وليس قوة أجنبية، فقد خلقت جائحة "كوفيد 19" جواً تبدو فيه التغييرات المفاجئة ممكنة كما في زمن الحرب.
ويرى شيللر أنّ "هذه التغييرات إيجابية، ففي ظل وجود عدو مشترك، يتعاطف الناس في البلدان المتقدّمة مع أولئك الذين يعانون من هذا الفيروس في البلدان الفقيرة، كونهم يتشاركون تجربة مماثلة". وتأمل نظريته أن تكون المدفوعات الطارئة التي قدّمتها العديد من الحكومات للأفراد، الطريق إلى دخل أساسي عالمي يفتح نافذة للحد من الاتجاه نحو مزيد من اللامساواة.
"استغلال السياسيين"
في المقابل، تتوجّس جيتا جوبيناث، كبيرة الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، من السياسيين، وتقول "إنّ الخوف الحقيقي هو استغلال السياسيين لمخاوفنا"، وتؤكّد على هشاشة الحدود المفتوحة التي انكشفت في غضون أسابيع قليلة فقط، معدّدة سلسلة المآسي التي وقعت، حيث
أصيب العالم بخسائر مأساوية في الأرواح، وشُلّت سلاسل التوريد العالمية، وانقطعت شحنات الإمدادات الطبية بين الحلفاء، وحدث أعمق انكماش اقتصادي عالمي منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
وتتوقّع جوبيناث أنّ تسرّع الجائحة في إعادة تقييم تكاليف وفوائد العولمة، فضلاً عن إمكانية الحد من السفر إلى أجل غير مسمّى من قبل العديد من الأفراد، حتى مع ظهور تدابير احتواء
الجائحة تدريجياً في جميع أنحاء العالم. وهو ما قد يؤدي إلى عكس عملية الحراك الدولي المتزايدة منذ نصف قرن تقريباً.
فترات ركود طويلة
بدورها، تقول كارمن م. رينهارت، أستاذة التمويل الدولي في مدرسة هارفارد كينيدي، لـ"فورين بوليسي"، إنّ الاقتصاد سيواجه فترات ركود عميقة وطويلة بعد هذه الجائحة، التي تجتاح اقتصادات الدول المتقدّمة والنامية على حد سواء، منذ أزمة ثلاثينيات القرن الماضي. وتلفت إلى أنّها تختلف عن جميع الضربات التي واجهتها العولمة الحديثة منذ الأزمة المالية عامي
2008-2009، مثل أزمة الديون الأوروبية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، فضلاً عن صعود الشعبوية في العديد من البلدان.
تعمق اختلالات موجودة مسبقاً
إلى ذلك، يلخّص آدم بوصون، رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، للمجلة، آثارهذه الجائحة
في تفاقم أربعة اختلالات موجودة مسبقاً في الاقتصاد العالمي؛ أولها الركود (مزيج من انخفاض نمو الإنتاجية، ونقص عوائد الاستثمار الخاص، وقرب الانكماش)، الذي قد يتعمّق بعد زوال الجائحة، مع عزوف الناس عن المخاطرة والاتجاه نحو المزيد من التوفير. ويقول إنّ الاختلال الثاني هو اتساع الفجوة بين الدول الغنية وبقية العالم، من ناحية قدرتها على مواجهة الأزمات،
والثالث استمرار العالم في الاعتماد بشكل مفرط على الدولار الأميركي في التمويل والتجارة،
للهروب من المخاطر الواضحة للاقتصادات النامية. وأخيراً، يتوقّع أن يؤدي اعتماد الحكومات على القومية الاقتصادية بشكل متزايد، إلى إغلاق اقتصاداتها عن بقية العالم.
ولا تختلف نظرية إسوار براساد، أستاذ السياسة التجارية في جامعة كورنيل، المتشائمة كثيراً، عن نظريات بقيّة المحلّلين، فيقول إنّ "المذبحة" الاقتصادية والمالية التي أحدثتها هذه الجائحة،
قد تترك ندوباً عميقة على الاقتصاد العالمي، بيد أنّه يلفت إلى أنّ البنوك المركزية واجهت
هذا التحدي عبر تمزيق دفاتر قواعدها الخاصة، حيث عزّز الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الأسواق المالية عن طريق شراء الأصول، ووفّر سيولة بالدولار إلى البنوك المركزية الأخرى.
وأعلن البنك المركزي الأوروبي أنّ "لا حدود" لدعمه لليورو، كما أعلن عن مشتريات ضخمة من سندات الحكومة والشركات والأصول الأخرى، بينما يمول بنك إنكلترا الإنفاق الحكومي مباشرة.
ترسيخ دور البنوك المركزية
ويستنتج براساد أنّ هذه الخطوات أظهرت أنّ المصرفيين المركزيين يستطيعون التصرف برشاقة وجرأة وإبداع في الأوقات العصيبة، الأمر الذي جعل البنوك المركزية، من الآن ولفترة طويلة، راسخة كخط الدفاع الأول والأساسي ضد الأزمات الاقتصادية والمالية.
ووفق تحليل آدم تووز، أستاذ التاريخ ومدير المعهد الأوروبي في جامعة كولومبيا، "لن يعود الاقتصاد إلى ما كان عليه" قبل جائحة "كوفيد 19"، وقد تغلق قطاعات عديدة نهائياً، مع مواجهة العديد من البلدان صدمة اقتصادية، ووجود ضغوط شديدة من المنافسة عبر الإنترنت. ويقول إنّ الملايين من العمال وأصحاب الأعمال الصغيرة قد يواجهون وأسرهم كارثة، وإنّه
كلما طالت مدة الإغلاق، كلما كانت الندوب الاقتصادية أعمق.