يأتي الاتجاه الحكومي نحو تعويم الجنيه السوداني في وقت يُشهَد فيه تهاوٍ متسارع له بالسوق السوداء مقابل العملات الأجنبية، ما دفع البنك المركزي نحو تخفيض قيمة العملة المحلية لأول مرة منذ عدة أشهر.
ويرى مراقبون أن تحرير سعر الصرف أصبح واقعاً في الأسواق، في ظل عدم وجود احتياطي من العملة الصعبة في بنك السودان المركزي، وتواصل الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي تعاني منها البلاد، ونقص موارد النقد الأجنبي.
وفي الوقت الذي طالب فيه وزير المالية والتخطيط، إبراهيم البدوي، أخيراً، بضرورة تعويم سعر الصرف لقطاع الصادر، قفز سعر الدولار الأميركي إلى مستويات قياسية، إذ تجاوز 105 جنيهات في السوق السوداء، وسط مخاوف من ارتفاعات جديدة للعملة الأميركية خلال الأيام المقبلة.
وفي الأثناء، أعلن البنك المركزي على موقعه الرسمي، أول من أمس، تخفيضاً جديداً لقيمة العملة المحلية رسمياً إلى 51 جنيهاً مقابل الدولار، وكان متوسط سعر الدولار للبنك المركزي نحو 45 جنيهاً للفترة السابقة التي امتدت لعدة أشهر عقب اندلاع الاحتجاجات السودانية التي أطاحت الرئيس السابق عمر البشير.
ووفقاً لوكالة الأنباء السودانية الحكومية (سونا)، بلغ متوسط سعر الدولار رسمياً، أمس الأربعاء، نحو 51.6 جنيهاً، فيما تجاوز سعره في السوق السوداء 105 جنيهات، حسب تجار عملة وسماسرة لـ"العربي الجديد".
واقترح وزير المالية تعويم سعر الصرف لقطاع الصادرات وتحويلات المغتربين، على أن يظل سعر الدولار الجمركي ثابتاً في حدود 18 جنيهاً، تفادياً لعدم حدوث قفزات في أسعار السلع الرئيسية.
وأرجع ذلك إلى استهداف الحكومة التغلب على الندرة في النقد الأجنبي وتحويلات المغتربين، الأمر الذي عدّه مراقبون اتجاهاً قوياً لتحرير سعر الصرف وتعويمها كسياسة رسمية بعد الحوار الاقتصادي المجتمعي المرتقب في مارس/ آذار المقبل، الذي يُناقَش فيه عدد من السياسات، من بينها قضية سعر الصرف.
وفشلت مساعي الحكومة في السيطرة على أسعار النقد الأجنبي وكبح المضاربات في السوق الموازية ووقف الزيادات في قيمة الجنيه السوداني، رغم الحملات التي ظلت تشنها الأجهزة الرسمية على التجار.
وقال الخبير الاقتصادي، أحمد مصطفى التوم، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إن تحرير سعر الصرف سلاح ذو حدين: إما أن يقود إلى موجة غلاء جديدة، لعدم وجود مصادر تمويل حقيقية من النقد الأجنبي، وهذا هو الراجح، لعدم تلبية السوق الرسمية الطلب، أو في حال توصُّل البنك المركزي إلى تمويلات خارجية، فإن الأوضاع تعود إلى طبيعتها وتتقلص السوق الموازية وتنتهي المضاربة وتتحقق المعادلة المطلوبة من التحرير.
لكن التوم يستبعد ذلك في ظل الخلل الهيكلي الكبير في الاقتصاد المحلي. وقال: إذا لم تحل مشاكل الاقتصاد الكلي، فلن يحدث توازن في المشهد المعيشي.
وفي المقابل، يرى المصرفي، حسين إسحاق، أن قرار التعويم ضروري في هذه المرحلة، ويهدف إلى تحسين وضع الاقتصاد، كذلك فإنه يعمل على تعزيز الإنتاج المحلي وزيادة الصادرات السودانية، مضيفاً لـ"العربي الجديد" أن هذه الخطوة ستؤدي إلى تخفيض حاد وسريع لقيمة العملة الوطنية، ولكنه إجراء إصلاحي مهم لمواجهة الأزمة الاقتصادية.
ويطالب إسحاق بدعم قطاع الصادرات بعد خفض قيمة الجنيه أمام الدولار، إلى جانب تنشيط جذب الاستثمار الأجنبي، مؤكداً أن ذلك مشروط باستقرار الأوضاع السياسية والأمنية.
وحسب المصرفي إسحاق، فإن من إيجابيات تعويم الجنيه السوداني تشجيع الاستثمار الأجنبي وزيادة تحويلات المغتربين عبر الأجهزة الرسمية دون خسائر، بسبب فرق السعر بين السوقين الرسمية والموازية. وفي المقابل، فإن من سلبيات هذه الخطوة ارتفاع معدلات التضخم، وإضعاف الدخل الحقيقي للأسرة، والتأثير سلباً في الإنفاق الاستهلاكي.
وارتفع معدل التضخم في الفترات الأخيرة، مدفوعاً بزيادة أسعار المواد الغذائية، وضاعف من ذلك وجود سوق سوداء للدولار. وبلغ التضخم السنوي 60.67 بالمئة خلال نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مقابل 57.70 بالمئة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حسب جهاز الإحصاء الحكومي. وأدى نقص الخبز والوقود والارتفاع الكبير في الأسعار إلى اندلاع احتجاجات متواصلة خلال الفترة الماضية.
أستاذ الاقتصاد في عدد من الجامعات السودانية، محمد المرضي، يؤكد لـ"العربي الجديد" أن من شأن خطوة تحرير سعر الصرف في حال تنفيذها، التخفيف من حدة السوق الموازية، مشروطاً بزيادة الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي الذي يفترض أن يكون قادراً على ضخ العملة الأجنبية باستمرار عبر سياسة "النفس الطويل" حتى تُضبَط الأسواق.
لكن الخبير الاقتصادي بابكر محمد توم، قال لـ"العربي الجديد" إن "معالجة الأزمة تتطلب تخفيض الاستيراد وزيادة الصادرات لتوفير موارد إضافية للنقد الأجنبي"، ويرى أن كل هذه الإجراءات تحتاج إلى فترة زمنية لإعادة الاستقرار للاقتصاد السوداني. ويؤكد توم أن العامل الأساسي لاستقرار سعر الصرف، هو الإنتاج وزيادة معدلاته.